مما يثير الدهشة والاشمئزاز معًا أن الغرب الذي يستهين بدماء المسلمين التي تراق في كل مكان، يتندر على أمتنا إذا ما هلَّ العيد وذبحت الأضاحي، ويصف شعيرة ديننا بأنها قسوة وهمجية، وبعض أذنابهم من بني جلدتنا يرون في هذا اليوم «مجزرة تحدث عبر التاريخ بسبب حلم رآه أحد الصالحين».
أما نحن أمة الإسلام، فإن إيماننا الذي اصطفانا الله به، يكسبنا رؤية عميقة وشفافة لهذا الحدث العظيم، حدث الذبح والفداء، تلك القصة التي خلدها القرآن، وعاشت عبر آلاف السنين بين الأنام، هذا الإيمان هو شمس تشرق على كل حياتنا لتنير بصيرتنا تجاه الأحداث والأشياء.
لم نكن هناك معهما، لكننا صرنا كذلك بآيات القرآن التي جعلتنا نعيش باليقين ذلك الحدث الذي تلاه عليه كتاب ربنا في غير موضع، لكننا في مقامنا هذا نسرد موجز تلك القصة من خلال سورة «الصافات».
نبدأها من دعوة صادقة من خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)، فقد بلغ من العمر مبلغاً وهو بعد بلا ولد، فجاءت البشرى (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ)، إنه إسماعيل عليه السلام، ابنه الأكبر الذي صار أبا العرب المستعربة ورسولاً لرب العالمين.
(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) ها هو الغلام قد بلغ من السن ما يقوى خلاله على أن يسير إلى جانب أبيه في حاجاته، فهو إذن مؤهل لتلقي هذا النبأ العظيم الذي يُذهب بعقل كل من يسمعه إلا من أشرب قلبه التقوى والرضا واليقين.
(قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)، لا يعلم الجهلاء أن رؤيا الأنبياء حق ووحي من عند الله خلافًا لغيرهم من الناس، فالشيطان لا يستطيع إليها سبيلاً، فما رأوه إنما هو من عند الله.
جاء الأمر من الله بماذا؟ بأن يذبح إبراهيم ولده، أتدري ما معنى هذا؟
معناه أن هذا النبي الصالح التقي سوف يفعل ما يستلزم القسوة وخلوّ القلب من الرحمة في عرف الناس، معناه أن هذا الأب سوف يقتل ولده الوحيد آنذاك الذي جاء بعد طول أمد، معناه أنه مكلف بذبحه والذي لا يكون إلا بتمرير السكين على رقبة الغلام لا أن يلقيه من أعلى جبل مثلاً أو يضع له سمًا في طعامه فيخفف من هول الموقف.
لكنه ذروة الإيمان الذي تختفي معه رغبات النفس وحظوظها وصراخ القلب وهتافات الجبلّة، وهو اليقين بأن ما أراده الله لحكمة بالغة، لذلك لم يسأل إبراهيم عليه السلام ربه ولو سبيل استبانة الحكمة، ولم يتباطأ في تنفيذ الأمر، بل سارع إلى مرضاة ربه.
ولننظر إلى تلك التوطئة الجليلة بذلك النداء المحبب إلى كل ولد: (يا بُنيّ)، وكأنه أراد إخباره بأن ما سوف يقدم عليه ليس له دلالة على أنه يُكنّ له بغضاً أو اختلفت مشاعر الأبوة في قلبه قيد أنملة.
لقد أراد الخليل أن يشرك ولده معه في الأجر، ويستجيب إلى ربه عن طيب خاطر، لتحقيق معنى العبودية لله تبارك وتعالى، فمن ثم قال له: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى)، يتلطف معه في الخطاب تطييباً لقلبه، وإلا فإنه سينفذ أمر ربه لا محالة سواء استجاب ولده أو لم يستجب.
يتلقى الولد هذا النبأ بقلب صابر راض بقضاء الله، قد علم رغم صغر سنه أنه أمرٌ ووحي، وأن الله إذا قضى أمرًا فما يسع المؤمن إلا أن يقول: سمعنا وأطعنا، وقد علم أيضاً أن الأمر أشق ما يكون على نفس والده، فأراد أن يكون عونًا له على تنفيذ أمر ربه، فقابل نداء البنوّة بنداء الأبوة (يَا أَبَتِ)، فكأنه أراد إخباره بأن تنفيذ الأمر لن يزحزح نظرته لوالده في شفقته وحنوّه على ابنه، وذكّره بأن عمله استجابة لأمر الله ليعينه على التنفيذ فقال: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)، ثم ختم كلماته (سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)، يخبر الابن أنه سيصبر على أمر الله، لكنه من فقهه وإيمانه يقدم المشيئة، لعلمه أن الطاعة تحتاج إلى معونة الله وتوفيقه، ولن يؤتى هذه الطاعة إلا إذا أعانه الله.
(فَلَمَّا أَسْلَمَا)، استسلما لأمر الله وانقاداً طواعية، (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أكفأه على وجهه لئلا يرى عينيه عند الذبح فيضعف عن تنفيذ الأمر، إنه الأخذ بأسباب الطاعات وتهيئة النفس لها.
قدم إبراهيم وولده مثلاً فريداً في الاستسلام لله وهو معنى الإسلام، وفي الصبر الذي لم يُعط أحد عطاء أوسع منه، فجاء الفرج، وأقبل اليسر، فكان الفداء (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)، كبش أملح أقرن روعي في الجنة أربعين خريفًا، نزل به جبريل، ليفدي به إسماعيل، جزاء وفاقاً للانقياد والصبر.
خلّد الله هذه الذكرى، لتصبح ناقوسًا يذكرنا في غفلتنا بحقيقة العبودية، فأن تكون عبدًا لله يعني أن تتوجه حيث يوجهك سيدك، مع علمك الكامل بأن أوامر الله منزهة عن العبث، فله سبحانه الحكمة البالغة، علمناها أم لم نعلمها.
ذلك الانقياد والاستسلام الذي يميز المؤمن عن الكافر، ففرعون وآله أيقنوا خاصة أنفسهم بلا إله إلا الله (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ) (النمل: 14)، لكنهم لم ينقادوا لرب العالمين. إبليس لم ينفعه علمه بلا إله إلا الله لأنه تخلى عن شرط الانقياد.
الصبر على أمر الله الذي برز في أجلّ وأعلى صوره في تلك الحادثة، كان طريق الإمامة في الدين لإبراهيم وولده ومن اقتفى أثره؛ (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124).
فالكلمات هي الأوامر والنواهي الإلهية، قام بها إبراهيم على أتم وجه، قال ابن كثير رحمه الله: «(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) أَيْ: قَامَ بِهِنَّ. قَالَ: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) أَيْ: جَزَاءً عَلَى مَا فَعَل، كَمَا قَامَ بِالْأَوَامِرِ وتَرَكَ الزَّوَاجِرَ، جَعَلَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ قُدْوَةً وَإِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ، ويحتذى حذوه»(1).
وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فَالصَّبْرُ وَالْيَقِينُ بِهِمَا تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ»(2).
ستظل هذه الذكرى العطرة تسري بين أهل الإيمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تجدد في قلوبنا الإيمان، وتشحذ هممنا للانقياد.
_______________________
(1) تفسير ابن كثير (1/ 405).
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية (3/ 358).