في 15 أبريل 2023م قامت مليشيا «الدعم السريع» بالتمرد ضد الدولة السودانية ومحاولة الاستيلاء على السلطة بالقوة بالاستعانة بمرتزقة أفارقة، وبدعم مالي غير محدود من دولة إقليمية، إلا أن بسالة الجيش السوداني تمكنت من إحباط المحاولة الانقلابية، وذلك بعدم تمكين المليشيا المتمردة من اغتيال قادة الجيش السوداني والاستيلاء على القيادة العامة للجيش وإعلان حكومة جديدة.
غير أن الكيد العالمي والإقليمي ضد السودان وإسناده للمليشيا المتمردة ساهم في استمرار تمردها وحربها ضد الدولة والمجتمع في السودان إلى اليوم (منتصف أغسطس 2024م)، وفي الشهر التالي لتمرد المليشيا في مايو 2023م استضافت مدينة جدة بالسعودية مفاوضات بين الحكومة السودانية والمليشيا المتمردة، أفضت في أهم بنودها بخروج المليشيا المتمردة من منازل المواطنين والمؤسسات الحكومية التي احتلتها، وهو البند الذي لم يُنفذ حتى اليوم.
وفي 14 أغسطس الجاري، اليوم الذي يصادف العيد السبعين لتأسيس الجيش السوداني، دعت الولايات المتحدة كلاً من الحكومة السودانية والمليشيا المتمردة إلى مفاوضات جديدة في جنيف، إلا أن الحكومة السودانية رفضت الذهاب، لماذا؟ وما الذي تريده الولايات المتحدة؟ وما مستقبل الأوضاع في السودان؟
موقف الحكومة السودانية كان واضحاً وأعلنته أكثر من مرة؛ وملخصه ألا تفاوض مع المليشيا المتمردة ما لم يتم تنفيذ ما اتفق عليه في مفاوضات جدة 2023م، وأبرز بنودها خروج المليشيا المتمردة من منازل المواطنين والمؤسسات الحكومية التي احتلتها والتوقف عن استهداف المدنيين واكتساح المدن والقرى وقصف المستشفيات والأسواق وترويع المواطنين، بالإضافة لسبب آخر أعلنته الحكومة السودانية يتمثل في أن دولة محددة تتهمها الحكومة السودانية بدعم المليشيا المتمردة وتقدمت بشكوى ضدها في الأمم المتحدة لا يمكن أن تكون من ضمن المراقبين في اجتماع جنيف.
أما عن الولايات المتحدة، فيرى كثير من المراقبين أنها بدعوتها لاجتماع جنيف تريد تحقيق عدة أهداف، منها تحقيق نصر سياسي على صعيد العلاقات الخارجية تدعم به موقف الديمقراطيين المتأزم بين يدي الانتخابات الأمريكية نهاية هذا العام، وذلك بعد فشلها في إيقاف الحرب في غزة.
وتسعى الولايات المتحدة إلى استكمال مخططها باستهداف الجيش السوداني وإضعافه وتفكيكه حتى يتسنى لها تنفيذ مخططاتها في السودان التي لن تُنفذ في ظل وجود جيش قوي موحد متماسك.
كما تسعى الولايات المتحدة إلى الضغط على الحكومة السودانية لإخراج الروس من الساحة السودانية ومحاصرتهم في أفريقيا، وذلك بعد التمدد الروسي في أفريقيا وطرده للنفوذ الغربي في الكثير من دول القارة السمراء.
إلا أن أغرب ما تم في جنيف إصرار الولايات المتحدة على عقد اجتماع جنيف رغم عدم حضور الحكومة السودانية، والأغرب منه ما جاء في كلمة المبعوث الأمريكي توم بيريلو في الجلسة الافتتاحية للقاء.
وقد أشار المبعوث الأمريكي في كلمته إلى أن الولايات المتحدة ستواصل تقديم المساعدات عبر معبر أدري التشادي رغم اعتراض الحكومة السودانية، وهو ما يُذكّر بعملية شريان الحياة في تسعينيات القرن الماضي أيام حرب الجنوب التي تحوّلت إلى شريان للمتمردين في جنوب السودان وإمدادهم بالسلاح والمؤن، وكأن التاريخ يعيد نفسه، وتريد الولايات المتحدة إسناد المليشيا المتمردة بحجة تقديم المساعدات.
كما أشار المبعوث الأمريكي، في كلمته، إلى أن الإدارة الأمريكية تسعى لفرض إدارة مدنية في السودان بمعنى فرض «كرزاي» جديد على السودان كما تم في أفغانستان مطلع هذه الألفية، إلا أن أخطر ما لمّح إليه المبعوث الأمريكي الإشارة إلى تدخل عسكري في السودان، وهو بالطبع تدخل أمريكي بعيداً عن الأمم المتحدة مثلما حدث في العراق عام 2003م.
لكن الذي لم تنتبه إليه الولايات المتحدة ومبعوثها أن السودان ليس أفغانستان وليس العراق ولا يمكن تكرار التجربتين في السودان، إن شاء الله؛ وذلك لعدة أسباب، منها أن السودانيين لديهم حساسية عالية تجاه الغزو الأجنبي، وخاضوا تجارب بطولية في دحره يعلمها كل من درس تاريخ السودان، ومنها أن الشعب السوداني قد التفّ حول قواته المسلحة عبر المقاومة الشعبية، ويستحيل في ظل هذا الوضع تنفيذ غزو عسكري.
بالإضافة إلى أن القوى السياسية الوطنية السودانية بمختلف توجهاتها الفكرية تعارض علناً التدخل العسكري السافر في السودان وستقاومه بكل شراسة، ولم يشذّ عن هذا الموقف الوطني الشجاع سوى حفنة من العملاء يعرفهم الشعب السوداني، ولا مستقبل لهم في العملية السياسية في السودان.
سياسياً ودبلوماسياً، الحكومة السودانية إلى الآن تسجل انتصارات في مواجهة الكيد الأمريكي، فالحكومة لم تذهب إلى جنيف رغم التهديد الأمريكي، بل أرسلت وزير المعادن إلى جدة ليعلن هذا الموقف ويوصي الحكومة بعدم الذهاب إلى جنيف، وبعد عودته للخرطوم عقد الوزير رئيس الوفد السوداني مؤتمراً صحفياً كشف فيه عن الضغوط والتهديدات الأمريكية لحضور اجتماع جنيف، وإرسال وزير المعادن ممثلاً للحكومة السودانية يحمل أكثر من رسالة؛ فهو مدني وليس عسكرياً، كما كانت تريد الولايات المتحدة، وهو من ناحية أخرى ينتمي للحركات المسلحة ومن دارفور وليس من أي إقليم آخر، والرسالة هنا واضحة.
الحكومة أيضاً أصرت على التعامل مع البرهان كرئيس للدولة وليس مجرد جنرال قائد للجيش، وهو ما تم فعلاً من خلال اتصال وزير الخارجية الأمريكي بلينكن بالبرهان؛ إذ تعامل معه كرئيس للدولة وليس كقائد للجيش، أيضاً الحكومة السودانية ثبتت في موقفها الداعي إلى تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في جدة أولاً وعدم تجاوزه وهو ما يتم الآن.
وعملياً، فإن الحكومة واصلت في التوغل بالاتجاه شرقاً وتحديداً تجاه روسيا التي زارها وزير الدفاع السوداني منتصف أغسطس الحالي؛ أي في نفس موعد انعقاد لقاء جنيف، وهذا ما تخشاه الولايات المتحدة وتحذره.
أخيراً، فإن الولايات المتحدة عدَّلت عن نهج التعالي والتهديد والعصا الغليظة إلى نهج التودد والرجاء والجزرة؛ فوسّطت النرويج ومصر وتركيا لدى الحكومة السودانية للذهاب إلى جنيف وهو ما لم يحدث.
المؤكد أن الكيد الأمريكي تجاه السودان سيتواصل، لكن المؤكد أيضاً أن الصمود السوداني والمقاومة ستتواصل أيضاً، وإرادة الشعوب لا تُقهر بإذن الله.