استُخدمت القضية الفلسطينية ومواجهة المشروع الصهيوني على مدار عقود من قبل الأنظمة العربية المختلفة لتعزيز قبضة هذا النظام أو ذاك على شعبه، وأدت الدراما دوراً مهماً في تصدير بعض الأنظمة كقادة للأمة، ومدافعين عن المقدسات الإسلامية والعربية، وتراوح الترويج لتلك الأنظمة وفق مراحل متعددة؛ فتارة يتم تقديمهم كقادة محررين لا يقلون عن القادة العظام أمثال صلاح الدين، وبيبرس، وتارة أخرى يتم الترويج عبر الدراما التي يصدرونها للتعايش والسلام والتمهيد للتطبيع مع الكيان المحتل، وفي كل الأحوال الدراما حاضرة وجاهزة لتأطير الشعوب وحفزها على مؤازرة النظام.
«كن مهاباً خير من أن تكون محبوباً»، نصيحة مكيافيلي للأمراء الإيطاليين، التي ظلت سائدة حتى نهايات الحرب العالمية الثانية، لتبدأ الدول العظمى في سلوك منهجية جديدة تبحث من خلالها استخدام القوى الناعمة؛ من ثقافة ورياضة وفنون، فجمعت بين البطش والسيطرة النفسية على الخصم، ليتبلور المصطلح كمصطلح علمي عام 1990م على يد عالم السياسة جوزيف ناي تحت عنوان «قوة الجاذبية»؛ بأن تكون جذاباً للآخرين، وأن تضعهم في صفك دون استخدام قوة السلاح أو بشرائهم بالمال.
منذ عام 1948م وحتى «كامب ديفيد» عملت الأنظمة على منع الاختراق للدراما العربية واستمرار العداء للصهاينة
بالعودة إلى قواعد القوة الناعمة الأولى، فإن الدراما بأنواعها المختلفة تندرج ضمن الوسائل الثقافية للقوة الناعمة لأيّ دولة أو جهة، وحتى تكون هذه الوسيلة الثقافية فعَّالة داخلياً وخارجياً فعليها أن تخاطب الجمهور بالطريقة التي تناسبه وباللغة التي يفهمها كذلك، بالإضافة إلى وجوب حملها مضامين تؤثّر في هذا المتلقي سواء كان داخلياً أم خارجياً، وكذلك وضعها في قوالب تجعل من المتابع غير المطلع يفهمها بسهولة وانسيابية دون الحاجة للبحث والتعقيد.
وبنظرة فاحصة على المنتج الدرامي العربي ودوره في مواجهة المشروع الصهيوني ودعم القضية الفلسطينية، سنجد أن دول الطوق (مصر، سورية، الأردن، لبنان) كان لها قصب السبق في استخدام الدراما كقوة ناعمة، غير أنها استخدمتها في إطار توجيه للجمهور العربي، فالأنظمة مارست جذب شعوبها وحشدها لتبني وجهة نظرها تجاه المشروع الصهيوني، بل وجعلها تتماهى مع توجهات الدولة سواء كانت هذه التوجهات تصب في اتجاه معاداة المشروع، أو التطبيع معه، ووفق المرحلة الزمنية وحالة المواجهة العسكرية معه.
تطور الاشتباك الدرامي مع المشروع الصهيوني
كان للسيطرة الحكومية على وسائل البث والإنتاج الفني في الدول العربية، والتزام هذه الدول رسمياً بمعايير المواجهة مع المشروع الصهيوني ومقاطعة دولة الاحتلال، وعدم التطبيع معها، أثر كبير في المنطقة التي عملت في بادئ الأمر ومنذ عام 1948م وحتى توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» على منع الاختراق للدراما العربية، ومن ثم المحافظة على مناخ العداء للصهاينة، وظل الجمهور العربي لعقود طويلة بعيداً عن التعرض للأعمال الفنية التي تدمج الصهاينة في المنطقة، وتجعل من التعامل معهم اقتصادياً وسياسياً من ضرورات التعايش السلمي، وظلت دول الطوق محافظة على تصدير رسائل محددة تؤكد ثوابت الصراع وارتباطها بالهوية العربية.
لم تتأثر السردية الرئيسة التي حملتها معظم أعمال الدراما العربية أو تتراجع، رغم الهزائم المتتالية للجيوش العربية، بل كانت تتناول الهزيمة في إطار استمرارية الصراع مع المشروع الصهيوني، وعرضت خلال مسيرتها الانتصارات الجزئية التي حققتها وحدات من تلك الجيوش لتبث الأمل في النفوس وتحفزها على المواجهة، وكان التركيز على الانتصارات المخابراتية هو الأبرز.
بعد «الربيع العربي» اشتدت موجة الهجوم على المقاومة في الدراما المصرية التي راحت تقدم رسائل تحريضية ضدها
بدأ انكسار موجة مواجهة المشروع الصهيوني مع أول انتصار شكلي للجيش المصري في مواجهة جيش الاحتلال عام 1973م، ومع توجه الرئيس الراحل أنور السادات شطر «كامب ديفيد» عام 1978م سعى النظام المصري لاستخدام الفن والدراما لإقناع الرأي العام المصري والعربي بالمعاهدة، وأخطر ما يمكن رصده في تلك المرحلة هو تبرير الانكفاء القُطري على الذات الذي ابتدعته المخيلة الدرامية المصرية الذي سيتحول فيما بعد وخصوصاً بعد غزو العراق للكويت، ليتم التأسيس لمرحلة من التغير في الدراما العربية من الصراع مع المشروع الصهيوني، ومع ذلك ظلت الدراما العربية تتأرجح بين المواجهة مع المشروع الصهيوني وإظهار جرائمه بحق الفلسطينيين، وخدمة التطبيع مع هذا المشروع سواء على استحياء أو بسفور في بعض الأحيان.
فسنجد تنوعاً في نهاية التسعينيات وبداية الألفية في السينما المصرية بين تقديم القضية الفلسطينية ولو هامشياً في بعض الأعمال، مثل فيلم «صعيدي في الجامعة الأمريكية»، «أصحاب ولا بيزنس»، وتحذير بعضها من التغلغل الصهيوني والتطبيع مثل فيلم «فتح عينيك»، «أحلام عمرنا»، وبين الدراما السورية التي قدمت «التغريبة الفلسطينية»؛ وهو العمل الأكثر عمقاً الذي عالج القضية بأبعادها الإنسانية والتاريخية والنضالية المختلفة.
بينما جاءت أعمال أخرى لتروج ولو على استحياء لضرورة التطبيع مع الاحتفاظ بالعداء، ومن هذه الأعمال نجد فيلم «أولاد العم»، وفيلم «السفارة في العمارة»، ونجد أيضاً مسلسل «فرقة ناجي عطا الله»، كما حاولت بعض المسلسلات في تلك الفترة أن تطبع مع الشخص اليهودي فقدَّمها مسلسل «باب الحارة» كشخصية مسالمة تنشر السلام في المجتمع.
«الربيع العربي».. ودراما التطبيع
فرضت أحداث «الربيع العربي» نفسها على الساحة العربية، وتنبهت الأنظمة إلى خطورة امتداد هذه الموجة أو تجددها بعد إفشالها، فازداد التقارب بين النظم الرافضة لـ«الربيع العربي» والكيان الصهيوني، وانعكس الموقف على حركات المقاومة، واشتدت موجة الهجوم عليها بشكل كبير في الدراما المصرية التي راحت تقدم رسائل تحريضية ضدها.
بطولات معركة «طوفان الأقصى» أجبرت صناع الدراما على تقديم إشارات ورسائل إيجابية تجاه المقاومة الفلسطينية
ولحقت دول خليجية بركب الدراما المتقاربة مع المشروع الصهيوني؛ فظهرت مسلسلات تحض على التطبيع مع هذا المشروع، وحاولت الدراما تقديم سردية جديدة لليهودي الطيب الذي أراد أن يعيش في سلام على أرض وطنه، لكنه اضطر للرحيل بسبب الاضطهاد، ولعل مسلسل «حارة اليهود» كان الأكثر فجاجة في هذه المرحلة، وجاءت خدمة المشروع الصهيوني درامياً بعد «الربيع العربي» لتقدم رسالتين هما الأخطر في مسار الصراع؛ الأولى كانت شيطنة المقاومة الفلسطينية تحديداً، والثانية ربط كل من يساعد تلك المقاومة بالإرهاب و«الداعشية» وترويج المخدرات.
«طوفان الأقصى».. وعودة على استحياء
مسار المواجهة وامتداد الحرب بعد البطولات التي قدمتها المقاومة في معركتها الدائرة منذ السابع من أكتوبر 2023م «طوفان الأقصى» أجبر صناع الدراما على تقديم بعض الإشارات والرسائل على استحياء في مسلسلات رمضان لعام 2024م، فقدمت بعض المسلسلات دعوة للمقاطعة للشركات الداعمة والدول الداعمة للكيان الصهيوني، واضطرت أن تنتج مسلسل «مليحة» ليروي قصة فتاة هجرت عام 2000م من غزة وبقيت في ليبيا مع جدها حتى سقوط القذافي، لتقرر العودة، روى المسلسل قصة احتلال فلسطين، وفي خط موازٍ روى قصة مساعدة مصر لفلسطين، رغم أنه لم يكن إيجابياً بشكل كبير فإنه خطوة جديدة منذ أن تراجعت الدراما في مواجهة المشروع الصهيوني وإن كانت على استحياء.