في الجزء الشمالي الغربي من العالم القديم تقع قارة أسهمت بنصيب ضخم في التراث الإنساني القديم والمعاصر، كان ولا يزال هذا التأثير بالغ الأثر في مسار الإنسانية، فهي قارة تملك مقومات ثقافية وحضارية وإنسانية ضخمة، ولها مشروعها الخاص الذي لا تتخلى عنه أبدًا، ومهما قامت بين دولها من حروب واختلافات، فتبقى أوروبا كالدولة الواحدة، في المقومات العامة التي تشترك فيها من مشرقها إلى مغربها، ومن شمالها إلى جنوبها.
لا تذكر لنا المصادر التاريخية -شرقية أو غربية- رسولاً أو نبياً ظهر في أوروبا، فهي قارة لها طبيعتها، وكل الأنبياء الذين تعرفهم البشرية الشرقية والغربية وتؤمن بهم -يتمحور وجودهم في منطقة الشرق الأوسط، من مصر غربًا إلى مشارف الهند شرقًا، وهذه المنطقة تحصر الأماكن المقدسة، التي يلتف حولها أصحاب الرسالات السماوية الثلاث، في أي بقعة من العالم.
وهذا لا يعني الجزم بنفي وجود النبوة هناك، لأن نفي الوجود، كإثبات الوجود، كلاهما لا يكون بالنظر والاجتهاد، بل بالنص الصحيح، أو بيقين الحصول وتواتره بين الناس.
في التراث المقدس لدى أتباع الديانة الأكثر انتشاراً في العالم –المسيحية- يؤمنون بكتاب تذكر فيه مصر ولبنان والأردن وسورية وفلسطين، ويتوجهون إذا أردوا الصلاة إلى ذاك المكان، ويعتبرونه أقدس أماكنهم التي يتوقون إليها، وخاضوا حروباً دامية للسيطرة عليها، ولا نجد حضوراً مماثلاً لدولهم، بل تذكر بعضها نادراً كرومية واليونان ومقدونيا.
تحويل المسار
يعد شاول الطرسوسي من أخطر الشخصيات التي ظهرت في التاريخ، وله تأثير بالغ الأثر على مسار الديانة الأكثر أتباعاً في العالم.
يمكننا أن نلخص دور الطرسوسي في كلمات ذكرها ول ديورانت (1981م) بقوله: «من حقنا أن نعتقد أن بعض المبادئ الدينية والأخلاقية للرواقية انتقلت من البيئة المدرسية في طرسوس إلى مسيحية بولس، فهو يستعمل اللفظ الرواقي نيوما (Uenma)؛ أي النفس؛ للدلالة على المعنى الذي يستعمل فيه مترجموه الإنجليز لفظ «Spirit» (الروح)، وكان في طرسوس عقائد خفية، يعتقدون أن الله الذي يعبدونه قد قام من أجلهم، ثم قام من قبره، وإنه إذا دعي بإيمان حق، وصحب الدعاء الطقوس الصحيحة استجاب لهم، وأنجاهم من الجحيم، وأشركهم معه في موهبة الحياة الخالدة المباركة، وهذه الأديان الغامضة الخفية هي التي أعدت اليونان لاستقبال بولس وأعدت بولس لدعوة اليونان(1).
هذه الخلاصة التي ذكرها صاحب قصة الحضارة، التي كاد أن يقول: إن بولس نقل المسيحية إلى عادات وثقافات اليونان، التي كانت واجهة الأوروبيين، وعنصر حضارتهم التي يفاخرون بها.
جذور الثقافة المسيحية
لخص القاضي عبدالجبار (ت 1025م) دراسته للنصرانية، وقرر أنها نحلة لا تعرفها الديانة الصحيحة التي جاء بها المسيح عليه السلام، فقال: «لتعلم أن الروم ما تنصرت، ولا أجابت المسيح، بل النصارى تروَّمت، وارتدّت عن دين المسيح، وعطلت أصوله وفروعه، وصارت إلى ديانات أعدائه»(2).
ويسوق القاضي خطوات نقل المسيحية على يد يولس الرسول كما يلي:
– من عادة الروم ألا تحتجب نساؤهم عن الرجال.
– تركب امرأة الملك في موكب الملك مكشوفة الوجه.
– تخاطب الناس، وتأمر وتنهى.
– من عادة الروم ألا يحل للرجل أن يتزوج بأكثر من امرأة واحدة، ثم لا يفرق بينهما طلاق، ولا هرم، ولا عيب من العيوب بوجه ولا سبب، ولا يحل له غيرها إلى أن تموت.
– ونساء الروم يبغضن ديانات الأنبياء من بني إسرائيل؛ لما فيها من إباحة الطلاق، وأن للرجل أن يتزوج ما أطاق المؤونة.
فقيل له: أنت من أمة هذا سبيلها، فقال: لا، وما يحل للرجل أكثر من امرأة واحدة على أحكام الروم(3).
– والروم تأكل الخنزير، فقال: ما هو حرام، وما يحرم على الإنسان شيء يدخل جوفه.
– وبنو إسرائيل لا تأكل ذبائح الوثنيين ومن ليس من أهل الكتاب، والروم ليس كذلك، فصوّبهم بولس في هذا، ونفق عندهم بكل شيء وما خالفهم في شيء(4).
بل إن القاضي يرى أنه تسمى باسمه ذاك ليوافقهم، ويسهل له أن يستخدمهم.
تراجع حاد
ما مضى مما ذكره القاضي عبدالجبار هو من ركائز مسيحية العالم، ولا يتخلى المسيحيون عن هذه الأمور، على مستوى الديانة والثقافة.
إلا أن التقارير الدولية كلها تكشف عن حالة سائرة بين الأمم المسيحية، وهي انتشار الإلحاد، وترك النصرانية بين الأجيال الشابة، ففي سبتمبر 2021م، كشف استطلاع أجراه مركز «Pew Research» عن تخلي أعداد كبيرة من الأمريكيين عن المسيحية في الأجيال الشابة، فحتى العام 2019م قُدّر أن 31% من الذين نشؤوا على المسيحية تخلوا عنها، بين سن 15 و29 عاماً، في حين تخلى عنها قرابة 7% ممن تجاوزوا سن الـ30(5).
كما أشار استطلاع للرأي أجري في عام 2017م إلى أن متوسط تقدير الأمريكيين لأهمية الرب في حياتهم انخفض خلال 10 سنوات فقط من 8.2 نقاط، على مقياس من 10 نقاط إلى 4.6 نقاط.
التعلق بالثقافة المسيحية
هل يمكن أن نتخيل أن الديانة التي تسيطر على معظم جغرافية العالم، وتنتشر معابدها ورموزها في كل مكان وعلى كثير من المنتجات يمكن أن تزول لصالح الإلحاد، أو ديانات أخرى؟
والجواب: إنه لا يمكن ذلك قطعاً، فلا يزال القائمون على أمر النصرانية يغذونها بكل ما يستطيعون من عوامل البقاء، حتى بين من تركوها لصالح اللاأدرية أو الإلحاد.
ومن تلك المظاهر الاحتفالات في عيد الميلاد؛ حيث يحافظ المسيحيون ثقافيًا على مظاهره، على شكل إعطاء الهدايا ووضع شجرة الميلاد، ووجود شخصية بابا نويل الأسطورية، وعشاء الميلاد، والاجتماعات العائلية.
المسيحيون ثقافيًا غالبًا ما يُعَمِّدون أبناءهم باعتباره نوعاً من القيم التقليدية المسيحية، التي هي جزء من هويتهم الثقافية، هذا بالإضافة إلى اعتبارهم الكتاب المقدس والليتورجيا والفن والموسيقى الكنسية جزءاً من ثقافتهم وقيمهم
من ذلك أيضاً محافظة أعداد هائلة على المسميات ذات الطابع المسيحي، والتعميد، واتباع طريقة الدفن الكنسية.
يمكننا إذاً أن نرى الرجل المسيحي المعاصر الذي فتكت به المدنية الحديث، وتاه في متاهات العلم، ولم يجد في دينه إجابات شافية عن أسئلة المصير الثلاثة، وهي: مم خلقت؟ ولماذا خلقت؟ وإلى أين المصير؟
هذه الأسئلة التي تتخبط فيها الديانات الوضعية والمحرفة، ومنها النصرانية، وتعطي إجابات مشوهة، بعضها يرفضه العقل، وبعضها يرفضه العلم، تسوق السائل لمتاهات شتى، ولكن تظل جذوره متعلقة بأصلها، فنجد الدول التي تتشدق بالمدنية والعلمانية، والوقوف على مسافة واحدة من كل الديانات، يذهب رئيسها لحلف اليمين في الكنيسة، ويذهب محاربوها ليأخذوا الدعم من رجال الكنيسة، ويناشدونهم الصلوات، وكل هذا يأتي في باب الثقافة المسيحية الثابتة في النفوس رغم عدم تدينها أو إلحادها أو علمانيتها، يتشبث بها من خرج من الدين ولم يقنع ببدهياته التي يجاهر بها رجاله، فمهما رأينا إلحاداً في الغرب بكل امتداده الأوروبي والأمريكي والآسيوي، فتظل ثقافة المسيحية والحفاظ على مظاهرها شغلاً لرجال دينها يشعلونه كلما خبا، ويثيرونه كلما خمد، ويحركونه كلما توقف، ويبعثونه إذا أحسوا بموته.
_______________________
(1) قصة الحضارة (11/ 250).
(2) تثبيت دلائل النبوة (1/ 168).
(3) المرجع السابق (1/ 157).
(4) المرجع السابق (1/ 158).
(5) https://2u.pw/JpadN27p.