الإيمان هو المحرك الفعلي للمسلم في كل نواحي حياته، وهو المؤثر على حواسه وسلوكياته، والمحدد لشكل تعاملاته مع الحياة والناس، وليس الإيمان ثابتًا في كل وقت؛ بل يزيد وينقص، ومن ذلك فُهم أن الإيمان يبلى ويَخْلَق، وصح في ذلك الحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الإيمانَ ليَخلَقُ في جوفِ أحدِكم كما يَخْلَقُ الثوبُ، فاسأَلوا اللهَ أن يُجدِّدَ الإيمانَ في قلوبِكم»(1)؛ وهذا يعني أن القلب بحاجة إلى تجديد دائم للإيمان فيه حتى يظل محركًا للنفس لتستمر على فعل الخيرات.
كيف يَخلَق الإيمان؟
حينما تتراكم المعاصي والذنوب على القلب تحجب نور الإيمان عنه كما تحجب الغيوم نور الشمس، يقول الله تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين: 14)، وقد عدد الوحى عدة أسباب ضعف الإيمان أو حتى زواله عن القلب في أيما موضع، منها:
1- إهمال ذكر الله والعبادة: فهي مما تقسي القلب، يقول الله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد: 16).
2- الانغماس في الشهوات والمعاصي: فترك الطاعات وتكرار المعاصي والوقوع في الذنوب من دون توبة حقيقية يضعف الإيمان، ويجعل القلب أقل استشعاراً لعظم ذنبه، وهذا منذر بشر العاقبة، يقول الله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (مريم: 59).
3- التسويف وطول الأمل: فقد حذر القرآن من ذلك في قول الله تعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الحجر: 3)، فطول الأمل يُقعد عن العمل، ويجعل غاية الإنسان التمتع بالدنيا؛ مما يؤول به لخسران الآخرة.
4- الهمُّ بالدنيا: فكثرة الانشغال بالدنيا دون زاد إيماني يضعها في حجمها؛ يورث القلب التعلق بها، يقول الله تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) (التكاثر: 1).
5- البيئة الفاسدة: إن الخلطة الكثيرة مع المتعلقين بالدنيا من أشد أسباب خفوت الإيمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرَّجلُ على دِينِ خليلِه، فلْينظُرْ أحدُكم مَن يُخالِلْ»(2).
6- الإفراط في المباحات: كزيادة الأكل والشرب والسهر والنوم وفضول الكلام والضحك؛ فإن الوقت الذي يضيع دون طاعة الله عز وجل يورث القلب صلابةً، فلا تنفعه موعظة إيمانية، ولا يردعه زاجر قرآني.
أثر نقص الإيمان على العبد
يجب معرفة آثار نقص الإيمان على حياة المؤمن ليسعى في النجاة منها، ومنها:
1- الوهن وضعف الهمة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يُوشِك الأمم أنْ تداعَى عليكم كما تداعَى الأكلة إلى قَصْعَتها»، فقال قائلٌ: ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: «بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاء كغُثاء السَّيْل، ولينزعنَّ الله من صُدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قُلوبكم الوهن»، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: «حبُّ الدنيا وكراهية الموت»(3).
2- التكاسل عن العبادات وإضاعتها: فالقلب إذا ملئ بالإيمان أقبل على العبادات بنشاط، وإذا قل الإيمان تكاسل عنها أو حتى فعلها دون حضور قلبه فيها وتذوق حلاوتها، كما صور القرآن طاعات المُرائين فقال: (وَإذَا قَامُوا إلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى) (النساء: 142).
3- كثرة التقلب وتبدل الأحوال: فالقلب سمي كذلك لكثرة تقلبه، ولا استغناء له عن الإيمان لتثبيته، فكلما نقص الإيمان ضاق الصدر، وكلما ازداد؛ ازداد انشراحه، قال تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (الأنعام: 125).
4- فقدان الطمأنينة والسكينة: الإيمان القوي يولد في القلب سكينة وطمأنينة، قال الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28)، وعندما يقل يُفقد هذا الشعور بالاطمئنان، فيعيش صاحبه في قلق وتوتر دائمين.
5- فقدان الغاية وتشتت المجهود: فضعف الإيمان يضعف التصورات الكبرى عن الحياة والآخرة، فيزداد صاحبه من التعلق بالدنيا ويقل الاهتمام بالآخرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن كانتِ الآخرةُ هَمَّهُ جعلَ اللَّهُ غناهُ في قلبِهِ وجمعَ لَه شملَهُ وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ، ومن كانتِ الدُّنيا همَّهُ جعلَ اللَّهُ فقرَهُ بينَ عينيهِ وفرَّقَ عليهِ شملَهُ، ولم يأتِهِ منَ الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ لَهُ»(4).
كيف يُجدد المرء إيمانه؟
ولأن مقدار فلاح العبد حسب مقدار إيمانه، فقد ذكر الشرع عدة وسائل لزيادة الإيمان، وطرقًا لعلاج قسوة القلب، وإحيائها بنور الوحي، ومنها:
1- المداومة على الفرائض والزيادة من النوافل: فالصلاة على وقتها وقراءة القرآن بتدبر والذكر المستمر؛ أمور تحيي القلب وتزيد الإيمان، قال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال: 2).
2- التوبة والاستغفار: الاعتراف بالذنب والعودة إلى الله بالتوبة الصادقة والندم على التقصير مما يعيد الإيمان إلى قوته، ولأنه مهما بلغ إيمان العبد فلا بد وأن يقع في الذنب؛ فإن فلاح المؤمن متوقف على المسارعة بالتوبة والرجوع إلى مراد الله عز وجل، قال الله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور: 31).
3- الاستشفاء بالقرآن: جعل الله القرآن شفاء لما في القلوب من أمراض الشك والزيغ وغيرها، يقول الله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) (الإسراء: 82).
4- مرافقة الصالحين: الصحبة الصالحة تعزز الإيمان وتحث على السير في طريق الخير، وقد أمر الله بمصاحبة الصالحين فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119).
5- التفكر في آيات الله: التأمل في خلق الله ومعجزاته في النفس والكون يزيد الإيمان واليقين بقدرة الله وحكمته، يقول الله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ {190} الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (آل عمران).
6- الدعاء والاستعانة: طلب العون من الله لتجديد الإيمان أمر لا غنى عنه للعبد مهما بلغ إيمانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»(5)، ولهذه الوسيلة أهمية قصوى؛ بدليل أن المسلم مأمور بترديدها في كل ركعة في صلاته، فيقول: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة: 5).
إن الإيمان يتآكل في القلوب كما يتآكل الثوب، وقد يسر وسائل تجديده، وغاية المطلوب أن يحرص المؤمن على الاستفادة منها؛ وألا يترك قلبه مستسلمًا حال الفتور، وألا يأمن مكر الله فيخشى أن يختم على قلبه فيُترك لهواه، بل عليه بالمجاهدة والوقوف بعد السقوط حتى تُكتب له خاتمة السعادة.
______________________
(1) رواه الطبراني، والحاكم وغيرهما، وصححه الألباني.
(2) رواه الترمذي، وأبو داود، وأحمد، وصححه ابن باز، وحسنه الألباني.
(3) رواه أحمد، وصححه الألباني.
(4) رواه الترمذي، وصححه الألباني
(5) رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني.