تُشكّل معركة «طوفان الأقصى» التي اندلعت في 7 أكتوبر 2023م، علامة فارقة في تاريخ الصراع الفلسطيني-الصهيوني، فقد استطاعت هذه المعركة، التي ما زالت تداعياتها مستمرة، أن تكون أطول المواجهات العسكرية وأكثرها تعقيدًا بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني.
وما يميز هذه المعركة عن سابقاتها هو تعقيد المشهد الجيوسياسي المحلي والإقليمي والدولي الذي سبقها ورافقها، وبينما تتواصل هذه المواجهة، يتضح أن المقاومة الفلسطينية دخلت هذه المعركة وهي على دراية كاملة بتداعياتها المحتملة، ومستندة إلى حسابات تشمل المكاسب والخسائر، لكن المقاومة أيضاً وضعت جملة من الرهانات التي فيما يبدو أنها أخفقت في تقدير حجم تأثيرها بشكل صحيح، وهو ما سنناقشه هنا بشكل مفصّل.
السياق السياسي والعسكري
في الوقت الذي اندلعت فيه معركة «طوفان الأقصى» كانت الساحة الفلسطينية تعيش حالة من التوتر غير المسبوق بسبب سياسات الحكومة الصهيونية الأكثر تطرفًا، بقيادة تيار الصهيونية الدينية، منذ تولي هذه الحكومة مقاليد السلطة، شهدت القدس، وخاصة المسجد الأقصى، تصاعدًا في محاولات التهويد، حيث زادت وتيرة الانتهاكات الصهيونية للمقدسات الإسلامية بشكل علني واستفزازي.
إلى جانب ذلك، استمر حصار قطاع غزة الخانق الذي تواصل لسنوات، الذي تضمن تعطيل إمدادات الوقود ومنح الإغاثة، بالإضافة إلى ما يُعرف بـ«المعركة بين الحروب»، وهي إستراتيجية «إسرائيلية» استهدفت استنزاف قدرات المقاومة تدريجيًا عبر جولات تصعيد متكررة، أدت إلى سقوط مئات الشهداء والجرحى من المدنيين الفلسطينيين، كل ذلك حدث في ظل تحولات إقليمية ودولية كانت تحمل تأثيرًا مباشرًا على مسار الصراع.
حين اندلاع «طوفان الأقصى» عاشت الساحة الفلسطينية توتراً غير مسبوق بسبب الحكومة الصهيونية الأكثر تطرفاً
على المستوى الإقليمي، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تُعيد ترتيب تحالفاتها في الشرق الأوسط ضمن إطار التطبيع العربي مع «إسرائيل»، متجاهلة بشكل واضح حقوق الفلسطينيين، تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن كانت لافتة في هذا السياق، حيث أكد للرئيس الفلسطيني محمود عباس، خلال لقائهما في بيت لحم، أن الحل السياسي للقضية الفلسطينية يبدو بعيدًا، ما دامت الظروف الدولية والإقليمية لا تصب في صالح الفلسطينيين.
هذه المعطيات مجتمعة، إلى جانب تركيز الولايات المتحدة على مواجهة روسيا في أوكرانيا واحتواء الصين، جعلت من الصعب إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية في الأمد القريب، وأطلقت اليد لليمين الصهيوني المتطرف للتغول أكثر ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس بالإضافة إلى تصعيد الخناق ضد الأسرى في سجون الاحتلال مع سحب كافة حقوقهم الإنسانية من قبل المتطرف إيتمار بن غفير.
المكاسب الإستراتيجية للمقاومة
رغم القصف المكثف والتدمير الهائل الذي تعرضت له غزة وهو ما تراه المقاومة ضريبة كان لا بد منها لإنهاء هذا الصراع ووضع حد لحالة الاستنزاف المتواصل للشعب الفلسطيني منذ 75 عاماً، حققت المقاومة الفلسطينية عدة مكاسب إستراتيجية يجب النظر إليها بعمق:
1- إعادة تموضع القضية الفلسطينية دوليًا:
بعد سنوات من التهميش بفعل اتفاقيات «أوسلو» و«صفقة القرن»، أعادت معركة «طوفان الأقصى» القضية الفلسطينية إلى واجهة المشهد الدولي، فقد أصبحت فلسطين من جديد مركز النقاشات السياسية في مختلف العواصم، خاصة في ضوء تصاعد الحركات الشعبية المؤيدة للفلسطينيين في الغرب، كما أن المعركة رسخت قناعة لدى القوى الدولية أنه من المستحيل تحويل فلسطين وقضيتها إلى أندلس أخرى، وأن الاستقرار العالمي يمر عبر بوابة إنهاء الصراع العربي «الإسرائيلي»، ومنح الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة.
2- إثبات هشاشة الأمن «الإسرائيلي»:
أثبتت المقاومة أن «إسرائيل»، رغم تفوقها العسكري والتكنولوجي، لا تزال عرضة للهجمات التي يمكن أن تشل منظومتها الأمنية والعسكرية، كان الهجوم على مدار العام الماضي دليلاً على أن هذه المنظومة تعتمد بشكل كبير على الدعم الغربي، خاصة من الولايات المتحدة والدول الغربية.
لقد كان صباح السابع من أكتوبر نُقطة انكسار إستراتيجي في العمود الفقري للكيان الصهيوني وهو المؤسسة الأمنية والعسكرية، ونقطة الانكسار هذه وإن حاولت بعد ذلك إثبات قدرتها على استعادة الردع عبر الإبادة الجماعية وحمام الدم النازف في غزة بالصواريخ الأمريكية، إلا أنها لم تستطع حتى الآن إخفاء حالة النزيف المستمر بداخلها من حيث عدد القتلى والجرحى والإصابات بالصدمات النفسية والأهم الاستقالات في صفوف القيادات العسكرية والأمنية وإعلان حالة العصيان والتمرد من قبل أفراد المؤسسة الدينية الرافضين للتجنيد.
من مكاسب المقاومة الإستراتيجية إعادة تموضع القضية الفلسطينية دولياً وإثبات هشاشة الأمن «الإسرائيلي»
3- تعزيز الهوية الوطنية الفلسطينية:
ساهمت المعركة في تعزيز الهوية الوطنية الفلسطينية بشكل كبير، حيث أعادت تأكيد وحدة الصف الفلسطيني على الرغم من التحديات الداخلية والخارجية، لقد أثبتت المعركة أن الفلسطيني أينما كان هو تحت الاستهداف «الإسرائيلي»، ففي وقت تشن فيه «إسرائيل» حرب إبادة على غزة، تواصل تغولها وعدوانها في الضفة الغربية التي استشهد المئات من أبنائه واعتقال الآلاف منهم، ضمن سياسة العقاب الجماعي بحق الفلسطينيين.
4- قدرة المقاومة على الصمود وتجديد نفسها:
كان لافتاً قدرة المقاومة الفلسطينية على الصمود لعام كامل في وجه آلة قتل صهيونية غير مسبوقة مدعومة بمئات الطائرات والبواخر التي تحمل كل أنواع الأسلحة لتدمير غزة وقتل أهلها، لقد أثبتت المقاومة أن لديها قدرة على الاستثمار الأمثل في المقدرات المتوفر بين أيديها وإعادة توظيفها ضمن معركة طويلة الأمد مع الاحتلال الصهيوني في غزة، يضاف إلى ذلك قدرة المقاومة على تجديد نفسها رغم الخسائر البشرية الكبيرة التي تعرضت لها خلال المعركة، كما كشفت منظومة الأنفاق لدى المقاومة عن الجانب الأكثر تأثيراً في إدارة المعركة حتى الآن.
5- كسر الهيمنة الدعائية «الإسرائيلية»:
لأول مرة منذ عقود، شهد العالم تحولات في الرأي العام الغربي، حيث بدأت العديد من المجتمعات، بما فيها الجامعات الأمريكية والأوروبية، تتبنى الرواية الفلسطينية بعد عقود من الهيمنة الدعائية «الإسرائيلية»، هذه التحولات تشير إلى إمكانية تعزيز الدعم الدولي للفلسطينيين في المستقبل.
6- تشكيل نواة دعم إقليمي:
على الرغم من التحديات، نجحت المقاومة في تعزيز التعاون مع حلفاء إقليميين، مثل إيران و«حزب الله»، وإن كان الدعم العسكري المباشر محدودًا مقارنةً بالتوقعات، إلا أنها المرة الأولى التي تجد فيها المقاومة حالة إسناد خارجي لها خلال معاركها مع الاحتلال.
خسائر المقاومة
بالرغم من المكاسب الواضحة، لا يمكن إغفال الخسائر الكبيرة التي تكبدتها المقاومة الفلسطينية:
1- استنزاف القدرات العسكرية:
تعرضت البنية التحتية للمقاومة لضربات قوية، خصوصًا فيما يتعلق بشبكة الأنفاق والصواريخ، وهي قدرات تطلبت سنوات من البناء والتطوير، هذه الخسائر تضع المقاومة أمام تحديات إعادة البناء والتأهيل لهذه المقدرات سواءً خلال الحرب أو بعدها، وإلى أي مدى ستكون قادرة على فعل ذلك في ضوء نتائج الحرب المتوقعة؟
من خسائر المقاومة استنزاف القدرات العسكرية وفقدان القيادات الميدانية والتدمير الواسع للبنية التحتية
2- فقدان القيادات الميدانية:
شهدت المعركة استشهاد عدد كبير من القادة العسكريين الذين كان لهم دور بارز في إدارة المعارك الميدانية، فقدان هؤلاء القادة يُعد خسارة إستراتيجية مؤلمة، حيث يحتاج تعويضهم إلى وقت طويل وتدريب كوادر جديدة قادرة على إدارة المعارك.
3- التدمير الواسع للبنية التحتية:
تعرض قطاع غزة لتدمير واسع النطاق طال البنية التحتية المدنية والعسكرية على حد سواء، هذا التدمير يتطلب جهودًا هائلة لإعادة الإعمار في ظل استمرار الحصار «الإسرائيلي»؛ مما يزيد من الأعباء على الحكومة وعلى المقاومة في الوقت نفسه، والأهم من ذلك هو قادرة المقاومة على ترميم الجانب النفسي للحاضنة الشعبية، وإلى أي مدى ستكون قادرة في أعقاب الحرب أو أثنائها على تثبيت صمود الناس وتعزيز التفافهم حول خيار المقاومة؟
رهانات المقاومة قبيل 7 أكتوبر
دخلت المقاومة الفلسطينية معركة «طوفان الأقصى» وهي تعتمد على عدة رهانات، بعضها تحقق والبعض الآخر لم يثمر كما كان مأمولًا:
1- رهان على وحدة الساحات الإقليمية: كانت المقاومة تراهن على دعم أكبر من حلفائها الإقليميين، خاصة من «محور المقاومة»، إلا أن هذا الدعم بقي محدودًا على المستوى العسكري المباشر، ولم يرتقِ إلى مستوى الرد على المجازر التي ارتكبها الاحتلال «الإسرائيلي» في غزة، وبدا وكأن المقاومة وحيدة ليس في مواجهة «إسرائيل» فحسب، بل في مواجهة النظام الدولي والإقليمي الذي أعلن نيته القضاء عليها للأبد.
2- صداقات وعلاقات ما قبل المعركة: كانت هناك رهانات على دعم سياسي من الدول العربية والإسلامية على نطاق واسع، لكن هذه الدول ظلت متحفظة في مواقفها ولم تتجاوز الردود الخطابية والإدانة الشكلية؛ مما شكل خيبة أمل لدى المقاومة والشعب الفلسطيني، والأخطر من ذلك أن ثمة دولاً عربية أعلنت بشكل مباشر أو غير مباشر انحيازها للموقف الصهيوني على حساب المقاومة الفلسطينية.
3- رهان على الرأي العام الدولي: الرهان على تحولات الرأي العام الدولي بدأ يؤتي ثماره، خاصة في أوروبا وأمريكا، حيث شهدنا موجات من التضامن مع الفلسطينيين وانتقادات لاذعة للسياسات «الإسرائيلية»، رغم ذلك، لكن لا تزال هذه التحولات بحاجة إلى مزيد من الوقت والجهود لتترجم إلى ضغوط سياسية فعلية على الحكومات الغربية.
4- رهان على الشعوب العربية والإسلامية: بالرغم من التعاطف الشعبي الكبير، ظلت التحركات الشعبية غير مؤثرة بشكل فعّال على مجريات المعركة، كان هناك رهان بأن تتحول هذه التحركات إلى ضغط على الأنظمة السياسية، إلا أن هذا لم يحدث بشكل ملموس، كما أن الفعل العربي لم يشهد نقلات ضاغطة، فعملية الشهيد محمد صلاح من مصر، والشهيد ماهر الجازي من الأردن ظلت عمليات منفصلة فردية ضمن هذا المشهد العام.
في الذكرى الأولى لمعركة «طوفان الأقصى»، تتضح صورة المقاومة الفلسطينية كمكوّن محوري في الصراع الممتد مع الاحتلال الصهيوني، وعلى الرغم من الخسائر الكبيرة التي تكبدتها، فإنها أثبتت قدرتها على الصمود وإحداث تحولات إستراتيجية في ميزان القوى.
في الوقت ذاته، تبقى الرهانات مفتوحة، خاصة فيما يتعلق بتعزيز دور محور المقاومة في هذه المرحلة الحرجة وقدرة غزة على التعافي مع بعد الحرب، والسؤال المحوري الآن هو: كيف ستتمكن المقاومة من البناء على هذه المكاسب، والاستفادة من التحولات في الرأي العام الدولي والإقليمي لتحقيق أهدافها المستقبلية في ظل التعقيدات الراهنة؟