يكفي أن نقلّب صفحات معدودة من تاريخ نشأة الصهيونية، حتى نقف على حقيقتها وأهدافها ومدى ارتباطها بالاستعماريات الكبرى؛ دورانًا في فلكها وتنفيذًا لاستراتيجياتها، ومن ثم، يتشكل لدينا وعي حقيقي بهذه الظاهرة التي ما زلنا نكتوي بضغائنها وعدوانها الغاشم.
الصهيونية.. حركة سياسية لا دينية
في كتابه المهم «ملف إسرائيل- دراسة للصهيونية السياسية»، يوضح روجيه جارودي أننا لا يصح أن نخلط بين مفهومين مختلفين تمامًا؛ مفهوم الصهيونية الدينية، ومفهوم الصهيونية السياسية.
ويشير جارودي إلى أن المتصوفين اليهود كثيرًا ما نادوا بـ«الصهيونية الدينية»، وربطوا بينها وبين الأمل اليهودي في مجيء مسيح آخر الزمان، وأن هذه الصهيونية الدينية قد أدت إلى إعادة الحج إلى الأماكن المقدسة، بل وإلى تكوين طوائف دينية، ولكن اضطهاد الملوك الكاثوليك في إسبانيا لليهود دفع بعضهم إلى الهجرة والعيش في فلسطين.
ويوضح جارودي أن هذه الصهيونية الدينية لم تَلْقَ قط معارضة من المسلمين؛ الذين يعتبرون أنفسهم من ذرية إبراهيم ولا ينكرون دينه، ولم تُثِرْ هذه الصهيونية الروحانية -البعيدة تمامًا عن السياسة، التي لم تهدف أبدًا إلى إقامة دولة أو فرض سيطرة على فلسطين- أيَّ مصادمات بين اليهود والسكان العرب؛ مسلمين كانوا أم مسيحيين.
من أين جاءت المشكلة إذن؟ جاءت كما يتابع جارودي من تشكّل «الصهيونية السياسية» ودخولها على الخط! التي ابتدعها تيودور هرتزل، وبدأ في صياغة مذهبها في فيينا منذ عام 1882م، ثم انتهى من إرساء نظامها عام 1894م في كتابه «الدولة اليهودية»، وبدأ في وضعها موضع التنفيذ في أول مؤتمر صهيوني عُقد بمدينة بال بسويسرا عام 1897م.
ولفت جارودي إلى تناقض هذا النوع الأخير من الصهيونية مع النوع الأول منها، الديني فقط؛ وذلك من خلال توضيح أن هرتزل مناقض تمامًا للصهيونية الدينية؛ إذ إنه من أتباع «اللاأدرية» (المذهب المخالف لجميع الأديان الذي لا يعترف إلا بما يدخل في نطاق التجربة الملموسة)، بل إنه يعارض بكل شدة من يفهمون «اليهودية» على أنها دين من الأديان السماوية.
جارودي يشير في هذا الصدد إلى أن الصهيونية السياسية ترى أن اليهود هم أولاً وقبل كل شيء أمة واحدة، ولهذا خلص هرتزل، وبعد دراسة مسألة الصهيونية، إلى 3 نقاط أساسية:
1- يشكل اليهود في كل بلدان العالم، وأيًّا كان البلد الذي يعيشون فيه، أمة واحدة.
2- كان اليهود في كل زمان ومكان هدفًا للاضطهادات.
3- لا يمكن لليهود أن يندمجوا في نسيج أي أمة يعيشون فيها.
وبناء على ذلك، استنتج هرتزل ضرورة إنشاء دول يهودية يتجمع فيها كل يهود العالم، خاصة أن القرن التاسع عشر كان عصر القوميات، وهذه الدولة اليهودية ليست سوى صورة من صور القوميات على نمط غربي تمامًا.
وهنا نقطة مهمة توضح طبيعة هذا الكيان الذي يتاجر بالادعاءات الدينية؛ وهي أنه لم يكن للمكان الذي ستقام فيه الدولة الصهيونية أهمية كبرى عند هرتزل، ولهذا لم يمانع في إقامتها في الأرجنتين، كما اقترح البارون هيرش، أو في أوغندا كما اقترحت إنجلترا، أو في جنوب أفريقيا، ومن بين البلدان التي كان يُحتمل إقامة تلك الدولة بها، فضّل هرتزل فلسطين على غيرها؛ حتى يستقطب تيار «محبي صهيون»، وحتى يدعم الحركة التي كان يرعاها وذلك بتحويله التيار الديني في اتجاه فكرته رغم عدم إيمانه به.
إذن، هذا كيان نشأ كحركة قومية، توظِّف الدين وما يتصل به من مزاعم باطلة، وذلك لتحقيق أهداف سياسية.
الصهيونية.. حركة تابعة لا مستقلة
الحقيقة الثانية هي أن الصهيونية نشأت كحركة تابعة لا مستقلة؛ أي أنها طرحت نفسها دائمًا في خدمة الاستعماريات الكبرى، بدءًا من فرنسا ثم بريطانيا ثم أمريكا.
ويوضح د. عبدالوهاب المسيري، في كتابه «الأيديولوجية الصهيونية- دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة»، أن الحركة الصهيونية ليست حركة قومية تضرب بجذورها في الأرض وتنتشر فروعها في السماء، وإنما هي حركة ليس لها سند في الواقع، ولهذا فهي تضرب بجذورها في الهواء، ولا يمكن أن تصل إلى الأرض إلا عن طريق العنف الإمبريالي؛ أي أن فكرة «الاستعمار الصهيوني» مثل فكرة «القومية اليهودية» تمامًا، هي مجرد فكرة لا تملك مقومات الحياة، ولكنها بالاعتماد على الإمبريالية، عن طريق العمالة لها، تحققت بشكل جزئي على أرضنا الفلسطينية.
ومما له دلالته أن الصهيونية قوبلت بمعارضة شديدة من أغلب اليهود خصوصًا البرجوازيين، ويمكن أن نضيف أن هذه المعارضة استمرت إلى أن حققت الصهيونية نجاحها مع الإمبريالية، ثم قامت بـ«غزو» الجماعات اليهودية، واصطلاح «غزو» هذا استخدمه أكثر من زعيم صهيوني، وإذا كانت الحركة القومية الحقيقية هي حركة تجنّد الجماهير لتحقيق الأهداف القومية، فإن الصهيونية قد «غزت» الجماهير اليهودية لخدمة المصالح الإمبريالية!
ويشير المسيري إلى أن آباء الصهاينة أدركوا من البداية افتقادهم لأساس جماهيري، وبالتالي تيقنوا من حتمية عمالة الدولة الصهيونية، وقد حاول هرتزل، طيلة حياته، أن يُظهر الفوائد التي ستعود على الإمبراطورية البريطانية من إقامة الدولة الصهيونية؛ إذ كتب قبل وفاته بعامين إلى لورد روتشيلد في إنجلترا يخبره أن المشروع الصهيوني سيدعم النفوذ البريطاني في شرق البحر المتوسط عن طريق إنشاء «مستعمرة كبيرة تضم أفراد شعبنا اليهودي، وتقع عند نقطة التقاء المصالح المصرية بالمصالح الهندية/ الفارسية».
وفي نص آخر، أشار هرتزل إلى أن الدولة الصهيونية ستضيف إلى الإمبراطورية مستعمرة أخرى غنية، وفي سياق لاحق، تم تأكيد أنه «يحاول خلفاء هرتزل في الوقت الحاضر أن يثبتوا أن الدولة الصهيونية ستضيف للإمبراطورية الأمريكية مستعمرة أو ولاية أخرى قوية وغنية».
وأشار المسيري إلى استخدام الكتّاب الصهاينة عدة استعارات للتعبير عن حقيقة «عمالة» الكيان للاستعماريات الكبرى؛ مثل أن «إسرائيل» تمثل: «قاعدة لقوة عسكرية»، «ثروة إستراتيجية للولايات المتحدة»، «الحارس الذي يمكن الاعتماد عليه»، «عميل للولايات المتحدة»، «مخلب القط»، «كلب حراسة للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط»، «كلب حراسة رأسه في واشنطن وذيله في القدس»، «لولا إسرائيل لاضطرت أمريكا لبناء عشر حاملات طائرات».
وقد مزج هرتزل مؤسس الصهيونية كل العناصر في استعارته الشهيرة حينما قال: «سنقيم هناك في آسيا جزءًا من حائط لحماية أوروبا، يكون عبارة عن حصن منيع للحضارة الغربية في وجه الهمجية»، والمفارقة أن نتنياهو أعاد مضمون هذه الجملة، بعد عملية «طوفان الأقصى» ليستجدي أمريكا والغرب!
الصهيونية.. خنجر في جسد الأمة
إذن، ومن خلال النقطتين السابقتين تتكشف لنا طبيعة نشأة الصهيونية، وهي النشأة التي تحمل في طياتها إعلانًا عن أهداف هذه الحركة التي وُلدت من رحم الاستعمار؛ ولعل أبرز هذه الأهداف:
– رعاية المصالح الأمريكية والغربية في هذه المنطقة الحيوية من العالم.
– قطع الطريق على إمكانية قيام نهضة أو وحدة عربية وإسلامية.
– تخليص أوروبا من صداع مزمن، هو «المشكلة اليهودية»، بتصديرها للآخرين.
فالصهيونية استعمار أصغر يحرس مصالح الاستعمار الأكبر، وخنجر مسموم في جسد الأمة، يحاول فرض أطماعه بالقوة تارة، وبالحديث عن المصالح المشتركة تارة أخرى، لكن شعوبنا لا تنطلي عليها هذه الأكاذيب.