قبل عدة سنوات، شاركت في ورشة عمل ضمن إعداد مشروع تطبيقي لما تم دراسته في العلوم السياسية، وكان هدف المشروع الإجابة عن سؤال: ماذا حدث للعقل المصري والعربي؟
كانت جل المراجع التي استند إليها فريق العمل تختص بفروع علم النفس، ومن الصدف العجيبة أن بعض النظريات الجديدة في هذا العلم هي من ابتكار «الإسرائيليين» وحدهم، فنظرية مثل نظرية «الانحياز المعرفي» (Cognitive bias) من إبداع عالم النفس المعرفي دانيال كانيمان، وعالم النفس عاموس تفيرسكي، وكلاهما «إسرائيلي»، وهذه النظرية تحديداً من أهم النظريات التي تشرح بوضوح لماذا يختار الناس الاختيار الخطأ، رغم وجود جملة من الحقائق الواضحة؟! ولماذا يبدو كثير من الناس همجاً، رعاعاً، لاغين لعقولهم، منساقين كالدواب وراء كل ناعق؟!
اللافت أيضاً أن جيش الاحتلال الصهيوني يعتمد بشكل كبير على أدمغة علماء النفس في تطوير منظوماته الدفاعية، بعيداً عن الدبابات، والطائرات، والصواريخ، قريباً من تشريح العقل، وكيف يعمل؟ وكيف يمكن التلاعب به عبر وسائل الإعلام و«الميديا»؟ وقدم كانيمان لوزارة الدفاع العديد من الأبحاث العلمية في هذا الصدد..
بعض علماء النفس «الإسرائيليين» ركزوا جهدهم حول معرفة كيف يعمل العقل عموماً، والعقل العربي على وجه الخصوص، فكانيمان ألَّف الكتاب الأبرز في هذا المجال تحت عنوان «التفكير.. بسرعة وببطء» (Thinking, Fast and Slow) الذي صدر في عام 2011م، وحقق أعلى نسبة مبيعات في ذلك الوقت، حيث استطاع الرجل على مدى 30 سنة من الأبحاث والدراسات أن يضع عصارة فكره في كتابه هذا، ويشرح من خلاله طريقة عمل المخ البشري، وكيف يصير أداة في أيدي الحكومات والأنظمة والشركات والأحزاب بل والأفراد.
وبيّن كانيمان في هذا الكتاب أن العقل يعمل بنظامين؛ الأول: السريع التلقائي، الذي يجنح إلى العاطفة، لا عقلاني، والثاني: بطيء يستهلك جهداً، يميل إلى المنطق والعقلانية، وفي هذا النظام تحدث مجموعة من العمليات اللاشعورية حيث تزيد ضربات القلب وتتسع حدقة العين وغيرها من الأمور، ومثال ذلك معادلة رياضية طويلة، والإنسان بطبيعته يميل إلى النظام الأول، فقليلاً ما يفكر ويُعمل عقله؛ لأن العقل بطبعه كسول، ويحبذ القفز إلى النتائج.
استفاد من هذا الكتاب الأنظمة وأصحاب شركات الدعاية والإعلان، والأشخاص ذوو المناصب السيادية المكلفون بإدارة المنصات والأجهزة الإعلامية، والسياسية والإدارة والحكم، بل وكذلك السينمائيون، حيث اعتمد فيلم «Focus» الذي قام ببطولته ويل سميث على أفكار وردت في هذا الكتاب وحقق الفيلم نجاحاً كبيراً في أمريكا وخارجها.
على أن أخطر هذه النوعية من الكتب هو كتاب «العقل العربي» (The Arab Mind) لـ يهوشافاط هركابي، المنسق العام المخابرات «الإسرائيلية» (موساد، شين بيت، أمان)، مؤسس حزب العمل، أستاذ رئيس الكيان والأب الروحي لشمعون بيرس، وقد تأمل في نظريات هذا الكتاب، الكاتب «الإسرائيلي» رفائيل باتي وعالج أطروحات الجنرال الصهيوني هركابي وبسطها ليكون بمقدور الأجهزة الأمنية والدفاعية في الكيان الاستفادة منها على أرض الواقع.
تستند فكرة الكتاب إلى تشريح مفصل للعقل العربي من خلال تعامل المؤلف لعقود طويلة مع العقلية العربية الرسمية والشعبية، العسكرية والمدنية، والتأمل في سلوكيات العرب ومواقفهم إزاء الأحداث المختلفة، ومن ثم لم يكن الكتاب معبراً عن عاطفة الكاتب فحسب، بل جاء مستنداً إلى ملاحظات منطقية دقيقة.
ولعل أبرز فكرة جاءت في هذا الكتاب تتمحور حول طريقة عمل العقل العربي، وكيف أنه ملول، لا يقوى على الصمود طويلاً، سرعان ما يتأثر صاحبه عاطفياً وسرعان ما ينزل على لا شيء، فهو ذو نفس قصير، فاقد للرؤية الكلية للأمور، مهزوم نفسياً بفعل الاستبداد الذي فتك بروحه.
كما أكد هركابي نقطة في غاية الأهمية تتعلق بأخطار استفزاز العقل العربي بالمواجهة المباشرة؛ لأن رد فعله قد تتجاوز العاطفة المتوقعة لا سيما إن رافقها شعارات دينية أو وطنية، بل ذهب إلى الاستفادة من تلك الميزة (سرعان ما يشتعل وسرعان ما ينطفئ) بابتكار فكرة «المفاوضات» التي سيأخذ من ورائها ضعف ما سيحصل عليه من الحروب والمواجهات العسكرية، ومن هنا جاء مصطلح «عملية السلام» التي يلتف حول موائدها العرب منذ عقود دون جدوى!
أعتقد أن الإدارة «الإسرائيلية» ما زالت مقتنعة بنظريات هركابي، ونظريات كانيمان، وغيرهما من منظري الكيان الصهيوني، ذلك أن ما تراه تلك الإدارة من شواهد ودلائل يؤكد لها صدق ما توصلت إليه تلك النظريات؛ فالشعوب العربية في الغالب تغضب وتثور بعد كل اعتداء من الكيان على غزة ولبنان، وسرعان ما تنطفئ شعلة الغضب ليعود الكيان في حربه أشرس وأجبن؛ لأنه يعلم جيداً ميكانيزم العقل العربي، ويدرك جيداً أنه استطاع عبر عقود أن يهزم العقل العربي هزيمة عقلية وروحية وأخلاقية.
أما العقلية حين هزم العرب فيما يعرف عالمياً بحرب الأيام الستة، أو ما يعرف عربياً بنكسة يونيو، ومصرياً باسم نكسة 67، وأما الروحية والأخلاقية حين نجح عبر عقود في صناعة نخب وأفكار وكيانات عزلت القيم الروحية عن المجتمعات العربية والإسلامية لما شيطنت الدين وسممت المفاهيم والقيم، والنتيجة تعزيز الأنانية والتمحور حول الذات المكتفية برغباتها وضعف الشعور بالآخر.
في هذا الوقت تعظم الحاجة إلى العلماء والمفكرين وأصحاب الأقلام لنقد العقل العربي وتغذيته بالمفاهيم الصحيحة على غرار ما قام به المفكر المغربي طه عبدالرحمن، حيث تساءل يوما قائلًا: أيّ عقل هذا الذي هزم العرب جميعًا؟! ثم أخذ على نفسه أن يجتهد في بناء عقل عربي غير منسلب، ومتحرر غير متسيّب.