في أحد أيام صيف عام 2013م، وقف د. محمد بديع، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، أمام مئات الآلاف في ميدان رابعة العدوية، بهدوء العالِم وإصرار القائد، صدح بصوت حازم: «سلميتنا أقوى من الرصاص»، تلك الكلمات التي أصبحت شعارًا لمرحلة مفصلية في تاريخ مصر، لكن الأيام حملت مفارقات قاسية؛ حيث سُجن الرجل الذي دعا للسلمية بتهمة «الإرهاب»، بينما استقبل العالم آخرين كانوا يُتهمون بالإرهاب كقادة يشاركون في صناعة السياسة الدولية!
هذا المشهد أثار جدلًا واسعًا حول طبيعة الخيارات التي تواجهها الشعوب، وأيهما أكثر تأثيرًا: السلمية، أم المقاومة المسلحة؟
السياق التاريخي.. اختلاف التجارب واختلاف الظروف
تاريخ الأمة الإسلامية مليء بتجارب متنوعة بين السلمية والمقاومة المسلحة، في الجزائر، حملت الحركات الإسلامية السلاح في التسعينيات، وكان الثمن حربًا أهلية دامية استمرت سنوات طويلة.. في سورية، اندلعت الثورة سلمية، لكنها سرعان ما انزلقت إلى مواجهة مسلحة بسبب بطش نظام الأسد وانشقاق جزء من الجيش؛ ما منح المعارضة قوة إضافية، إلى جانب الدعم الإقليمي والدولي الذي حظيت به.
أما في مصر، فالوضع مختلف جذريًا، جيش مصر ليس طائفيًا كالجيش السوري، ولا يعاني من الانقسامات العرقية أو الطائفية مثل سورية، كما أن الحركات المسلحة التي ظهرت في مصر عبر العقود الماضية، كالجماعة الإسلامية، والتكفير والهجرة، تعرضت لسحق كامل دون تحقيق أهدافها، بل دفعت البلاد ثمنًا باهظًا من أرواح المدنيين واستقرارها.
السلمية ليست ضعفًا والمقاومة ليست دائمًا انتصارًا
الإسلام يُجيز المقاومة المسلحة عند الضرورة، لكنه يضع لها شروطًا صارمة، قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ) (البقرة: 193)، لكنه أيضًا يقول: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا) (الأعراف: 56).
السلمية ليست علامة ضعف، بل خيار حكيم عند غياب الظروف المناسبة لحمل السلاح، كما أن المقاومة المسلحة ليست دائمًا طريقًا مضمونًا للنصر، فقد تؤدي أحيانًا إلى كوارث أعظم إذا لم تكن محسوبة بدقة.
د. بديع، الذي دعا إلى السلمية، لم يكن رجلًا بسيطًا، بل عالِمًا وقائدًا اختار هذا الطريق بعد دراسة دقيقة لتجارب الماضي وواقع مصر، ومهما كانت المآلات، فإن اختزال تجربته وكلماته في خانة «الفشل» يعد ظلمًا كبيرًا لتضحياته وتضحيات جماعته.
سورية ومصر.. لماذا لا يمكن المقارنة؟
الحالة السورية لا يمكن إسقاطها على مصر، الثورة السورية بدأت سلمية، لكنها تحولت إلى مواجهة مسلحة بعدما واجهت بطش نظام طائفي استغل الجيش كأداة قمع مطلقة، إضافة إلى ذلك، دعمت قوى إقليمية ودولية المعارضة السورية؛ ما أتاح لها مساحة من المناورة والوجود.
أما مصر، فالوضع مختلف تمامًا، النظام في مصر يعتمد على جيش قوي ومركزي، ولا توجد انقسامات طائفية أو دعم خارجي يجعل المقاومة المسلحة خيارًا واقعيًا أو ناجحًا.
دروس التاريخ.. التقييم قبل الاختيار
التاريخ يقدم أمثلة واضحة، في الجزائر، دفعت الحركات المسلحة البلاد إلى حرب أهلية، وفي مصر، التجارب المسلحة السابقة انتهت بالفشل وسحق التنظيمات، بدءًا من محاولات الفنية العسكرية إلى الجماعات الجهادية.
لذلك، السلمية ليست خيارًا عبثيًا أو ضعفًا، بل هي أداة صبر وإستراتيجية قد تؤتي ثمارها على المدى الطويل.
أي الطريق نسلك؟
الطريق الصحيح ليس في التسرع أو الانجرار خلف العواطف، إنه طريق يعتمد على تقييم الواقع بموضوعية، والتعلم من تجارب الماضي، الأمة تحتاج إلى رؤية موحدة وإستراتيجية شاملة تضع مصلحة الجميع فوق أي اعتبارات أخرى.
وكما يقول الله تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) (الأنفال: 60)، فإن القوة ليست فقط قوة السلاح، بل قوة الفكرة، والصبر، والإيمان بالحق.
النقاش حول السلمية والمقاومة ليس مجرد اختلاف فكري، بل سؤال وجودي يحتاج إلى إجابة متأنية تستلهم العبرة من الماضي، وتبني للمستقبل دون تهور أو تردد.