وسط الأجواء الكابوسية التي يعيشها الوطن، وفيما يهاجمنا الوجع كل آن، يحرمنا مجرد الشعور بالأمان،
وسط الأجواء الكابوسية التي يعيشها الوطن، وفيما يهاجمنا الوجع كل آن، يحرمنا مجرد الشعور بالأمان، ولو كنا خارج الوطن، فإن قلوبنا هناك في القاهرة، ومدينة نصر، قرب جامعة الأزهر فرع البنات وداخلها، ولدى شسع نعل، رباط حذاء، أصغر طالب وطالبة مصابين بالجامعة المذكورة، وبجامعة المنيا، ولها لدي ذكرى أكثر من خاصة، وعلى امتداد جامعات مصر، وسجونها.
وقرابة خمسة آلاف مريض في سجون الانقلاب مرضاً ينذر بالموت، وفيما تسافر الأمراض في أجسادنا، وتأخذنا متاهة عدم القدرة على تصديق ما يحدث في بلدي العزيزة مصر، ففي كل خطوة صاعدة لسلم أو هابطة لدرج يذكرني ما تبقى من عقل: الباقي هو الله، ووحده القادر على لملمة شتات وطن يتمزق، لندرك فقط ماذا يجري فيه.
أما سؤال كل آن، أصحو من الليل فأجد صوتاً بداخلي يردده، وأنام وأنا أحاول تحليله، ولا مهرب ولا فكاك منه:
منذ متى كان الانقسام يتعمق في مجتمعنا؟ ولماذا لم ننتبه له؟
في خضم هذه “المتاهة” لولا لطف الله ببلدنا وبنا، قرأت بياناً للدكتور يوسف زيدان منذ أيام، وتوقفتُ أستنطق الأحرف لأفهم، فما نطقت، واستوجب الفهم ذكرى جرت منذ خمس سنوات فقط لي، شخصياً، مع السيد الدكتور، ومن عجب أن لها خمس سنوات بالتمام فيما أكتب هذه الكلمات، ولنبدأ الحكاية منذ البداية، تاريخياً، ولا تلزم قصتنا هذه علم التاريخ إلا في مدارسة واحدة لأحد فنون السقوط، كما حفظ تاريخ الأدب لنا حالة الشعر في عصر المماليك، و.. صاح ما هذا الخير.. قلتُ: الجراد هنا ظهر، قلتُ: الجراد، قال: إي: تدري الجراد إذا انتشر
ليلة مبارة مصر والجزائر الثانية في السودان، أي مساء 18 نوفمبر 2009م، وهي إحدى عجائب التاريخ، وإن كان فرع الألم، أو عجائب البشر في افتراض السقوط لأممهم، وبالتالي الدخول في متاهة “الاستهبال” باسم الثقافة، في تلك الليلة كان عليَّ كصحفي بإحدى كبريات الصحف الخليجية أن أغطي سهرة فكرية، أو ليلة ثقافية مع الأديب د. يوسف زيدان، نظمتها هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث في نفس موعد المباراة، وهي عادة إماراتية بخاصة لمن خبروا تغطية العمل الثقافي في أبو ظبي، ففيما تنشغل عواصم عربية بمناسبات خاصة جداً، تتعمد الهيئة الثقافية الرسمية هناك إقامة فعاليات أخرى، وخذ عندك لما كانت غزة تدك بفعل العدو الصهيوني في عام 2008م كانت نفس الهيئة تحيي حفلات غنائية مرة للمطرب الشعبي حمادة هلال، ومرة للمطرب القاسم للشعب علي الحجار.
جاءني صوت رئيس القسم عبر الهاتف متوسلاً أن أذهب وأترك المباراة ففعلت، وحضرت محاضرة عن المخطوطات ولا أروع، للحقيقة، رغم كون الحاضرين يعدون على أصابع اليد الواحدة، زيدان، ورئيس الفرع في الهيئة، وثلاثة صحفيين، وعقب المحاضرة تحاورنا ثلاثتنا، كاتب الكلمات، والمُحاضر، ورئيس الفرع الثقافي، وتأسف الاثنان لحال الأمة الثقافي، فانطلقت الكلمات من فمي عن الاحتشاد للمباراة وترك المحاضرة، فتضايق رئيس الفرع جداً، وقال: إنه لا يحب هذا النوع من المقارنات، لئلا يتطور الحديث إلى موعد المحاضرة، وقال زيدان باقتضاب: إنه كذلك.
أما ما فعله د. زيدان فغير متوقع، ولا منطقي..
ففور عودته إلى القاهرة بالمال الإماراتي جراء المحاضرة، المفترضة، اعتذر من القارئ عن إكمال سلسلة مقالات في “المصري اليوم” عن “الرؤية الصوفية للعالم” ليكتب في 25 نوفمبر 2009م مقالاً نارياً عما أسماه ووصفه بالحالة الجزائرية، وبعد ستة أيام من قوله لي: إنه لا يحب المقارنات الفجة بين الرياضة وجمهورها، والثقافة و(ألا جمهورها)، أو تأمينه على عبدالله العامري، رئيس الفرع الذي استضافه من هيئة أبو ظبي، وفي المقال كال الاتهامات الرياضية والطبية بل الأخلاقية والذوقية للجزائرئيين، ودعمت ذكرياته وصفه لهم بقلة الأدب وكل شيء يناسب الأخلاق، والمقال موجود، وهو المقال الذي رفع ذكره هناك، في الجزائر، لأعلى المراحل على طريقة الرجل الذي بال في بئر زمزم ليذكره الناس ولو بالسب، ولما انتهت المعمعة اعتذر في مقال آخر بنفس الجريدة قبل نهاية عام 2009م بـ24 ساعة فقط.
إنه نموذج المثقف الرخو الرجراج الذي يميل حيث الرياح تميل لتحمل إليه ما يخيل لمثله إنها شهرة.
وهكذا في المقابل، تسكب دماء الشهداء في قلب مصر، ويطارد أهلها، ويموت أفاضلهم في السجون، ونشتهي مثقفاً كبيراً، ولو في السن، يقول كلمة حق، ولو بالرمز الأدبي، فلم يبقِ العسكر لنا في مصر منذ 1952م قامة ثقافية في أي فرع من فروع الأدب والفن، مع الاعتذار لكل من يحاول الإجادة.. ولا يعلو صوت لزيدان، كما لم يعلُ له صوت أثناء وبعد محاضرته المتوهمة في أبو ظبي خلال المباراة، وقد وصف الأمر، في مقال 25 نوفمبر، بأنه كان مضطراً للسفر للإمارات، دون أن يذكر أنه لم يشهد المباراة؛ لأن من بيدهم كيس الدنانير حددوا له وقت المحاضرة خلال المباراة، فلم يملك لا اعتراضاً ولا مجرد “البرطمة”.. ولما قال رئيس الفرع الداعي له من الهيئة المنظمة: إنه لا يحب مقارنة الثقافة بالرياضة رجاني الدكتور ألا أتطرق للأمر؛ لأن الإخوة الإماراتيين لا يعنيهم أمر المباراة كما يعنينا نحن المصريين، تلفت حولي وقلت: بدليل ألا أحد يحضر المحاضرة أثناء المحاضرة.. فاستأذن الرجل وتركني، وهو يكاد يتعثر في خطاه.
ورياح الشهرة حملته للمناداة بإغلاق جامعة الازهر لعامين منذ أسابيع، وغالباً كان الرجل يطمح في أن يكون رئيساً لمكتبة الإسكندرية، ولذلك أعاد نفس الكلمات وسب طلاب الجامعة، كما سب الجزائريين في 2009م ووصفهم بأقذع الألفاظ، مع اعتذاري الشخصي لشرفائهم، ولما وقع اختيار القيادة السياسية في مصر على غيره لرئاسة المكتبة، أو جددت الثقة للدكتور إسماعيل سراج الدين، لم يجد الدكتور بداً من الاعتذار إلى من لا يعلم عما لا يعرف.. فالوطن منكوب، باختصار قال زيدان: إنه يعتزل العمل الثقافي، كله، فلا يكتب، ولا يقرأ، ولا يرأس قسم المخطوطات بالمكتبة، ولا يحضر ندوات، أو يجلس حتى على مقهى؛ لأن رئيس المكتبة فاسد من وجهة نظر زيدان، والدليل إحالته إلى القضاء في عدة قضايا، كم من فاسد في مصر لم يتمعر وجهك لهم يا دكتور؟!
ولماذا الدكتور المذكور وهناك قتلة يسيرون في أمن وأمان إلى اليوم في مصر؟ وهل عرفت الآن فقط أن الوطن منكوب؟ وماذا عن تصريحك عن أفضل شبابه من طالبات جامعة الأزهر؟ أم أن تصريحك الأخير اعتذار كمثل اعتذارك للجزائريين.. لما نلت من سبهم ما تريد، وأوعزت لنظام “مبارك” الاستمرار في إلهاء المصريين بعداوة الجزائريين لأجل مباراة؟ وهكذا أنت رجل كل العصور ألبت نظام “السيسي” على طلبة الأزهر، فلما لم يعطك ما تريد، اعتذرت للوطن المنكوب عن “الفعل” الثقافي، ولا الوطن يعرفك ولا يهمه فعلك.
أما الثقافة العربية التي تظن أنها ستضار بانسحابك من ساحتها المعتمة بمثلك، أما طلبة جامعة الأزهر، والمضارون فعلاً من الانقلاب، لا كضررك الوهمي من غيرهم، فإنه ليصدق فيك وفيهم وفي الثقافة قول جرير مع فارق التشبيه:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يا مربع!