استطلعت «المجتمع» آراء عدد من الخبراء الإستراتيجيين والأكاديميين والباحثين المغاربة حول التحالفات الدولية الجديدة التي تشهدها المنطقة العربية وما جاورها، خاصة فيما يتعلق بالتقارب الأمريكي الإيراني الأخير، والتحالف السعودي التركي الباكستاني المأمول والمرتقب، فجاءت تحليلاتهم متقاربة تبين آثار هذه التحالفات وكيفية التعامل معها.
يقول د. عبدالعالي الحور، الأكاديمي المغربي المتخصص في الدراسات الأمنية والإستراتيجية: إن التقارب الأمريكي الإيراني أو التعاون والتنسيق المشترك بينهما ليس وليد اللحظة، فقد شهد العديد من ملفات منطقة الشرق الأوسط تعاوناً بين البلدين، في أفغانستان والعراق وفي مواجهة «تنظيم القاعدة».
وأوضح أن واشنطن وطهران تشتركان في كونهما دولتين براجماتيتين بامتياز تجيدان استعمال الخطاب المزدوج، خطاب للاستهلاك الإعلامي في الوقت الذي يجري فيه تدبير الملفات المشتركة بشكل سري.
وأشارت إلى أن الملف الأفغاني والعراقي كان فرصة سانحة لإيران للاتجاه نحو تطبيع علاقتها مع أمريكا خاصة ومع الغرب عموماً، يضاف إلى ذلك ما وقع بالعالم العربي من أحداث منذ عام 2011م، وزعزعة ثقة الولايات المتحدة الأمريكية في الأنظمة الحليفة لها، خاصة في ظل تنامي الدور التركي بالمنطقة وعلاقة الأتراك بحركات الإسلام السياسي، الذي تنظر إليه كل من أمريكا وإيران بعين الريبة، خاصة أن العلاقات بين إيران وتركيا تاريخياً لم تكن على ما يرام.
ويرى الحور أن هذا الوضع الذي سيمكن إيران من زيادة تدخلها في شؤون المنطقة، خاصة أنه يجب عدم إغفال أن إيران فيما يتعلق بالشؤون الإقليمية تتعامل بمنطق الدولة المذهب حيث تنصب نفسها وصية على الوجود الشيعي بدول الجوار.
ويتفق مع الرأي السابق د. محمد نشطاوي، أستاذ التعليم العالي والباحث في القانون الدولي لحقوق الإنسان، حيث يعتقد أن الرئيس الإيراني «حسن روحاني» بات مقتنعاً بأن أي توصل إلى تسوية مع الغرب بخصوص الملف النووي يعد السبيل الوحيد لرفع العقوبات الاقتصادية، ويقابل ذلك رؤية الرئيس الأمريكي «باراك أوباما» التي تنطلق من رغبته في حل المشكلات الدولية بالطرق الدبلوماسية، والامتناع عن التورط في نزاعات مسلحة خارجية ما لم تهدد المصالح الأمريكية مباشرة، وقد بدأت آثار هذا التحالف تظهر في استخدام إيران لنفوذها في العراق، وكذلك انخراطها التام في محاربة تنظيم الدولة (داعش).
شراكة موضوعية
أما الخبير الأكاديمي د. خالد ياموت، فيبرز أيضاً أن طهران تعتبر التقارب وسيلة لرفع للحصار الذي أضعفها اقتصادياً؛ ولذلك فهي لا تعارض استقدام الشركات الأمريكية والألمانية والصينية للاستثمار في البني التحتية النفطية وغيرها من المجالات المحتاجة للتحديث وإعادة الهيكلة.
وحسب رأيه، يبدو أن العلاقة بين طهران وواشنطن بدأت تتحول لشراكة موضوعية في ملف الإرهاب، خاصة مواجهة تنظيم «داعش» و«القاعدة»؛ كما يظهر أن أمريكا تعيد ترتيب علاقاتها الإستراتيجية بالشرق الأوسط وفق نظرية «العودة إلى الصفر» التي نظر لها البروفيسور «سيفين كينزر»، والتي تدعو للتحالف مع إيران وتركيا بدلاً من السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، وفي هذا السياق تنظر أمريكا للدور الإيراني في خليج عدن باعتباره صداً للوجود الصيني في هذه المنطقة الإستراتيجية.
توافق وليس تقارباً
وفي المقابل، يعتقد د. خالد شيات، الخبير الإستراتيجي أستاذ العلاقات الدولية، أنه من الصعب أن نسمي ما حدث تقارباً عاماً بين الولايات المتحدة وإيران؛ لأن الحرب تستدعي أحياناً توافقات حول مسارات تهدد الاستقرار العالمي، والملف النووي الإيراني هو واحد من التهديدات التي يمكن أن تخل بمنظومات إقليمية، ويمكن أن تمتد إلى منظومة الاستقرار العالمي الهش وغير المضبوط بصفة نهائية.
لذلك يفضل شيات أن يصفه بالتوافق حول الملف النووي، وطبعاً هذا الملف ليس منفصلاً عن تبعاته المرتبطة بالعقوبات المفروضة على إيران من طرف الدول الغربية خصوصا دول الاتحاد الأوروبي و«إسرائيل»، وفي هذا المستوى ينسحب البعد السياسي البات ليفسح المجال أمام الحسابات الاقتصادية والمصلحية التي هي بنية مختلفة عن الأولى.
ويضيف: لقد كانت إيران تحاول أن تجعل من المسألة الاقتصادية أولوية في التفاوض، وحاولت أن تهون من الخسائر التي تتكبدها والتي تعصف بمقدراتها التنموية؛ وبالتالي القدرة على الاستمرار، لكنها فطنت ربما متأخرة إلى صعوبة الاستمرار في النسق الأول، ثم ما لبثت أن عادت للبعد السياسي، وقامت بإيحاءات داخلية فهمت على الفور، وأخيراً كل النقاش اليوم هو حول طبيعة الاتفاق، لكن الأصل ليس ذلك بل هو تبعات الاتفاق لاسيما في أبعاده الإستراتيجية، التي ستحدد إلى حد بعيد مستقبل إيران، ومستقبل منطقة الشرق الأوسط.
وأوضح أن الدول العربية مازال بعضها يتعامل بطريقة تقليدية مع المسألة، الولايات المتحدة تجاوزت نظرياً الأبعاد الأيديولوجية، وإيران فهمت الإيحاءات، اليوم يمكن أن يصافح الرئيس الأمريكي نظيره الكوبي مبتسماً؛ لأن المنظومة تغيرت، فلنلاحظ ما حدث في قمة الأمريكيتين وخطاب الولايات المتحدة الجديد الذي يتجاوز المنظومات التقليدية في اتجاهين على الأقل؛ اتجاه اعتبار المنطقة مجالاً للتدخل، لكون هناك نموذج لذلك بالكفالة، واعتبار وجود عداوات أيديولوجية دافعة لصياغة السياسات الخارجية.
التحالف الثلاثي
وبخصوص التحالف السعودي التركي الباكستاني المأمول، فيقول د. عبدالعالي الحور: إن من الصعب حالياً التكهن بإمكانية إقامة تحالف إقليمي يضم الدول الثلاث، فباكستان فضلت الحياد في عملية «عاصفة الحزم» رغم إعلانها استعدادها للدفاع عن سلامة الأراضي السعودية إذا ما تم المساس بها، حيث تضم باكستان في تركيبتها السكانية وجوداً شيعياً مهماً لا يمكن إغفال تأثيره على القرارات التي تتخذها تجاه المنطقة، وخاصة تجاه الملفات التي ترتبط بالطائفة الشيعية.
أما بالنسبة لتركيا فمنذ أكثر من عقد وهي تبحث عن دور لها بالمنطقة، وتنظر إلى الشرق الأوسط كعمق إستراتيجي، ورغم تقارب وجهات النظر بين تركيا والسعودية بشأن الملفات السورية والعراقية واليمنية وإعلانها تأييد عملية «عاصفة الحزم» فإنه من السابق لأوانه الحديث عن تطابق وجهات النظر بينهما بما يسمح بتشكيل تحالف إقليمي، وعموماً لا يمكن التعويل على أي تحالف خارج الإطار العربي، حيث يجب تفعيل العمل العربي المشترك أمنيا وعسكرياً، بالإضافة إلى مختلف الجوانب الأخرى الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية باعتبارها المدخل الوحيد لتحقيق التوازن إقليمياً، ووضع حد للتغول الإيراني وللهيمنة الأمريكية على المنطقة.
أما د. محمد نشطاوي، أستاذ التعليم العالي والباحث في القانون الدولي لحقوق الإنسان، فيقول: إن الحلف السياسي الذي تحاول المملكة العربية السعودية تأسيسه والذي يرتكز على تركيا ويمتد إلى باكستان راجع على أنهما دولتان محاذيتان لإيران، كما يأتي هذا الحلف فيما يشبه التحرك المضاد للدور الإيراني الذي أخذ يلتف حول منطقة الخليج من العراق وسورية و«حزب الله» بلبنان والحوثيين في اليمن؛ لذلك يأتي الحلف السعودي التركي الباكستاني ليشكل التفافة من خلف الحدود الإيرانية.
ولابد من الإشارة إلى أن التحالف السعودي خاصة مع تركيا يستند إلى إدراك لدور تركيا وتأثيرها الإقليمي، فتركيا هي إحدى أهم الدول الكبرى في المنطقة بقدراتها الاقتصادية والعسكرية، ودورها السياسي، وهي إلى جانب كونها عضواً في حلف شمال الأطلنطي (الناتو) وفي مجموعة العشرين الدولية، فإنها تتمتع بموقعها الإستراتيجي بين العالم العربي من ناحية و«إسرائيل» وإيران من ناحية أخرى، كذلك فإنها من الدول التي تمتلك مشروعاً سياسياً واقتصادياً واضحاً، وهو مشروع يتناقض في مضمونه مع المشروع الطائفي لإيران.
تحالف بعيد المنال
د. خالد ياموت يرى أيضاً أنه من الصعوبة الحديث عن تحالف سعودي تركي باكستاني على المدى القريب؛ نظراً لاختلاف إستراتيجية الدول الثلاث فيما يخص الوضع الإقليمي، فتركيا مازالت تتشبث بدورها كقوة إقليمية (رمانة الميزان) قادرة على التوسط في النزاعات، كما أنها ترتبط مع إيران بعلاقاتها اقتصادية مهمة، رغم الخلافات المهمة بين البلدين في آسيا الوسطى والخليج.
من جانب آخر لا بد من التأكيد على أن باكستان ثالث دولة تقدم لها المساعدات الأمريكية بعد كل من «إسرائيل» ومصر؛ مما يجعلها تحت ضغوطها المعونة، كما أن النفوذ السعودي داخل الجيش الباكستاني أخد يواجه بعض الصعوبات، ورغم قوتها العسكرية فإن دور باكستان على المستوى الدولي متواضع، ويؤثر عليه الوضع الداخلي غير المستقر أمنياً واقتصادياً.
أما الجانب السعودي – حسب ياموت – فرغم أنها تقود الوطن العربي باعتبارها القوة الأولى منذ بداية السبعينيات، فإنها ظلت مرتكزة على المحور الأمريكي البريطاني الفرنسي، وهو محور يتراجع نفوذه في الخليج لصالح إيران وتركيا كقوتين إقليميتين صاعدتين لها مصالحها القومية.
أما الخبير خالد شيات فيسير في نفس الاتجاه، ويقول: إنه يخشى أن كلمة التحالف لا يمكن أن تنطبق على هذا المسار؛ لأن التحالف لا يمكن أن يكون ظرفياً وعلى أسس تنازعية، ولا يمكن أن يواجه تحالفاً أكبر وأكثر هيمنة، وأتحدث هنا عن «حلف شمال الأطلنطي» الذي يضم تركيا، ويعتبر باكستان من مجال جد حيوي يضمن توازناً كبيراً في منطقة تعرف نزاعات حادة ولاسيما في أفغانستان.
لذلك أعتبر أن بناء تحالف بالمعنى الحقيقي سيحتاج لوقت أكبر مما أعطي للتجمع الذي هو اليوم يحارب في اليمن على سبيل الاستئناس، وهناك خيارات ومساعٍ متضاربة في إستراتيجية كل طرف قد تصل حد التناقض مع الإستراتيجيات الأخرى، لكنه يعود للتأكيد أن بناء مثل هذا الحلف لم يكن مسألة سهلة، رغم أنه تحت رعاية أعلى، لكن يجب أن نتشبث أن البناء في حد ذاته شيء مطلوب، وأنا أعتقد أن من معطيات فنائه اعتماده على أبعاد ظرفية وعلى ركائز سياسية داخلية غير مستقرة، وهذا أمر قابل للتدارك لكنه يجب أن يتم بسرعة أكبر.
وإذا كانت الدول – يضيف شيات – تريد أن تبني تحالفاً متيناً؛ فيجب أن تكون هناك مبادئ قابلة للحماية بطريقة جماعية، وهنا المشكلة الأعم؛ لأن المبادئ ليست مبادئ، ولكنها أحداث أو عرائض أو أشياء منتفية في الزمان، وإذا أضفنا لذلك استمرارية الوصاية التي تحوزها الولايات المتحدة، على الأقل في علاقتها بالمصالح، فإن التساؤل هو متى سينتهي كل شيء؟
المحور الإيراني
وحول محور إيران، والدول التي تدور في فلكها وغيرها من الجماعات الموالية، يعتقد الحور أن إيران تشكل تهديداً للمنطقة عن طريق السياسة التي تنتهجها بتدخلها المباشر والعلني في العراق وسورية واليمن ولبنان، ودعمها للأحزاب والجماعات الشيعية بهذه الدول؛ حيث ساهمت بتدخلها في انهيار هذه الدول وانفراط عقدها، ولا يمكن الحديث الآن عن دولة اسمها سورية على أرض الواقع، فهي موزعة بين تنظيمات وجماعات مسلحة من بينها مليشيات «بشار الأسد»، وهو نفس الوضع الذي ينطبق على العراق واليمن؛ وهو ما يعطي الانطباع بوجود حرب مذهبية شيعية سُنية، وهذا الوضع يهدد الاستقرار والأمن في المنطقة حيث لا يلوح في الأفق أي أمل لحل هذا الوضع المتردي.
أما الأستاذ ياموت فيقول: إن التهديدات المستجدة في الخليج ناتجة أساساً عن التحول الجوهري الذي حدث في وظيفة الحرس الثوري في العقدين الماضيين، فقد أصبحت هذه القوة العسكرية تؤدي دوراً محورياً في صناعة القرار السياسي الإيراني الخاص بالسياسة الخارجية؛ أكثر من ذلك أخذ الحرس الثوري على عاتقه مهمة تنفيذ هذه السياسة على المستوى الإقليمي، وهو ما يفسر تواجد رجاله في عدة أقطار عربية استحدثت فيها المليشيات العسكرية لتمارس دوراً سياسياً وعسكرياً في الوقت نفسه.
تطهير مذهبي
وبالنسبة للدكتور شيات، فإيران لا تبني محوراً، بل تبني فضاء مذهبياً يقوم على استعمال الإكراه، والعواصم التي تحوزها اليوم في العالم العربي هي مقدمات لما تريده من الفضاء الذي تعتبره مجالها الحيوي، والذي يمتد من شمال أفريقيا حتى باكستان على الأقل، وهذا الأمر ليس سراً بل هو جزء من رؤية نظرية تقوم عليها «الحكومة العالمية»، واليوم يجب أن نذكر أن ذلك غير ممكن إلا بطريقة واحدة وهي التطهير الفكري الذي يمكن أن يمتد ليتحول إلى تطهير عملي مذهبي، وهذه أقبح رسالة وجهت في تاريخ المذاهب الإسلامية من قبل مذهب لآخر، وعليه فالإستراتيجية الممكنة هي تقليص بقعة الزيت التي سكبتها إيران في منطقة الشرق الأوسط، والعمل على حصارها في منطقة شمال أفريقيا أيضاً.