سعت إيران منذ مدة وبشكل حثيث إلى كسب حلقات نفوذ في مواقع مختلفة من القارة السمراء، وهي الجهود التي تكثفت خلال السنوات القليلة الماضية؛ حيث عملت طهران على أكثر من محور، فارتفع مستوى تمثيلها الدبلوماسي في القارة بصورة ملحوظة؛ إذ فتحت سفارات لها في أكثر من 30 بلداً أفريقياً خلال العَقد الأخير، وتوسعت دائرة المبادلات التجارية وازدادت قيمتها توازياً مع هذا النشاط الدبلوماسي، لتصل ذروتها مع مشاركة أكثر من 40 دولة أفريقية في قمة إيران وأفريقيا بطهران في سبتمبر 2010م، ليتضاعف حجم التبادل بين إيران وأفريقيا بعد ذلك، كما ازدهر نشاط بعض الدوائر الثقافية والدينية المرتبطة رسمياً أو بصفة غير مباشرة بالنظام الإيراني في أكثر من بلد أفريقي، وساعد على ذلك انتشار جاليات شيعية عربية – لبنانية تحديداً – لها حضور متجذِّر في المنطقة يعود إلى عقود عديدة خَلَت وتتمتع بنفوذ اقتصادي معتبر وعلاقات مصالح متشعبة مع النخب المتحكمة في تلك البلدان، حيث امتلكت ثروات طائلة مكَّنتها من التأثير على صُنَّاع القرار من داكار إلى أبيدجان.
وأخذ بعض هذا التأثير طابعاً رسمياً في بعض البلدان الأفريقية بفعل النفوذ الاقتصادي المتزايد للجاليات الشيعية فيها؛ حيث تشير معطيات شبه رسمية إلى امتلاك الجالية اللبنانية الشيعية حوالي 60% من القطاعات الاقتصادية الحيوية في ساحل العاج، و80% من شركات جمع وتصدير القهوة والكاكاو، وقدَّرت بعض الدراسات نسبة حضورهم بحوالي 80% في تجارة الماس في سيراليون.
من الواضح أن هذا التمدد الإيراني ظل محل متابعة واهتمام من طرف منافسي إيران الإقليميين، خاصة المملكة العربية السعودية، التي تتمتع بعلاقات قوية مع بلدان مؤثرة في المنطقة، وترتبط بمستويات عالية من التنسيق مع دول مثل المغرب التي تربطها صلات وثيقة مع معظم بلدان منطقة الصحراء والساحل خاصة، حيث يتمتع العرش العلوي بصلات تاريخية متجذرة وتحالفات سياسية قوية مع معظم الدوائر الأكثر نفوذاً وتأثيراً في تلك البلدان.
ومن الوارد تماماً افتراض أن هذا النفوذ المغربي والتحالف الإستراتيجي بين المغرب والسعودية لم يكونا غائبين عن المتاعب التي واجهتها طهران في علاقتها الرسمية ببعض بلدان أفريقيا الغربية مثل جامبيا وبدرجة أقل السنغال أواخر عام 2010م، بعد أن كانت المغرب قد أقدمت على قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران بمبررات عديدة، كان من بينها ما وُصِف بأنه ممارسة السلطات الإيرانية نشاطات “تستهدف الإساءة للمقومات الدينية الجوهرية للمملكة، والمس بالهوية الراسخة للشعب المغربي ووحدة عقيدته ومذهبه السُّني”.
مداخل نفوذ إيراني ملحوظ
هناك جملة من المداخل مثَّلت منافذ استطاعت الجمهورية الإسلامية في إيران أن تتغلغل من خلالها داخل القارة بما في ذلك بعض بلدان شمال وغرب أفريقيا؛ حيث تمكنت من توطيد علاقاتها الدبلوماسية بأكثر من حكومة، ووضعت أسساً لبناء شراكة اقتصادية وتعاون في مجال التنمية على أكثر من صعيد، والأهم من ذلك أنها نجحت في نسج شبكة علاقات داخل عدد من الأوساط الاجتماعية، ومدَّت جسوراً للتواصل مع بعض الدوائر التي يمكن أن تشكِّل حصان طروادة لنشر المذهب الشيعي في بلدان ظلت خالصة للمذاهب السُّنية لاسيما المذهب المالكي منها، ولعل أبرز تلك المنافذ هي:
– اللعب على المحاور الدبلوماسية: فقد عملت إيران خلال العقدين الماضيين على توطيد علاقاتها مع عدد من الدول الأفريقية التي تنزع قياداتها إلى اتخاذ مواقف مناهضة – بهذا القدر أو ذاك – لسياسات القوى الغربية ونفوذها التقليدي في القارة، وساعد إيران في هذا المسعى، فضلاً عن إغراء إمكاناتها المالية، ما يُعرف عنها من نهج قائم على سياسة الممانعة؛ وهكذا استطاعت أن تفتح قنوات تعاون وتشاور مع أكثر من واحد من البلدان الأفريقية ذات التقاليد المناهضة للإمبريالية، وتلك التي عرفت علاقتها بالغرب مستوى من التأزم أو الجفاء خلال العقدين الماضيين، كما استغلت إيران بعض الأزمات الداخلية وحالات التوتر على المستوى الإقليمي للتقارب مع أنظمة اضطرتها ظروف خاصة للبحث عن سند اقتصادي أو دبلوماسي، كسعي السنغال للتقارب مع إيران لضمان استضافة هادئة وتنظيم ناجح لقمة المؤتمر الإسلامي بداكار 2008م، وكتقارب النظام الموريتاني غير المسبوق مع طهران بُعيْد الحصار الغربي الذي فُرض عليه بُعيد انقلابه نهاية العام 2008م، كما ساعد الخلاف المتصاعد بين زيمبابوي وبريطانيا – والغرب عموماً – على خلفية مصادرة أراضي البِيض في دفع الرئيس موجابي -الرئيس الدوري للاتحاد الأفريقي – للمضي في تحالفه القوي مع إيران، وهو التحالف الذي تُوِّج بزيارة رئيس إيران أحمدي نجاد لهراري في العام 2010م.
– السعي إلى تطبيع العلاقات الرسمية: في ذات السياق، بذلت طهران على امتداد العقدين الأخيرين جهوداً استثنائية لتطبيع وضعها الدبلوماسي الرسمي، في مسعى للالتفاف على العزلة النسبية الناجمة عن توتر علاقتها بالعواصم الغربية، والحذر الذي ظلَّ يطبع علاقتها بمعظم جيرانها، وهكذا تضاعف عدد سفارات الجمهورية الإيرانية في البلدان الأفريقية ليقفز من أقل من عشرين سفارة إلى قرابة الأربعين خلال فترة لا تتجاوز عقدين من الزمن.
– تعزيز التبادل الاقتصادي: حيث نشطت إيران تجارياً في أكثر من بلد أفريقي مدفوعة بحاجة موضوعية للتخفيف من آثار العقوبات الغربية عليها عبر الدخول في فضاءات اقتصادية محدودة التنظيم، وبعيدة إلى حدٍّ ما عن الرقابة، وربما شجَّع إيران على هذا التوجه وجود جاليات شيعية متجذرة في النسيج الاقتصادي لكثير من بلدان القارة، ومطَّلعة بما فيه الكفاية على الفرص والأخطار، وذات صلة بمراكز القرار هناك، وقد سعت طهران إلى تسويق منتجاتها وخبرتها الفنية من خلال مشاريع مشتركة مع بعض حكومات المنطقة؛ حيث شيدت، على سبيل المثال، مصنعاً لتركيب السيارات في السنغال، وعرضت بناء مصنع آخر في موريتانيا.
وفضلاً عن النشاط التجاري العادي، يبدو أن طهران اهتمت أيضاً بتجارة الأسلحة، وفي هذا الإطار تندرج حادثة احتجاز سفينة إيرانية محملة بالأسلحة قرب أحد موانئ الغرب الأفريقي عام 2010م.
وقدَّر وزير الخارجية الإيراني السابق منوشهر متكي حجم التبادل التجاري بين إيران وأفريقيا بخمسة مليارات دولار سنوياً.
– تنشيط الدبلوماسية الثقافية والشعبية: على صعيد مختلف، عملت إيران بشكل نشط على بناء شبكة واسعة من العلاقات داخل عدد من دوائر التأثير الديني والاجتماعي في غرب أفريقيا خاصة، وبالاعتماد على الحضور التقليدي للجاليات الشيعية اللبنانية جرى السعي إلى استقطاب بعض الأشخاص والمجموعات بغرض وضع أسس للتبشير محلياً بالمذهب الشيعي، وفي غياب معطيات موضوعية حول مدى نجاح هذا المسعى، تظل المعلومات المتداولة حول مدى الاختراق الشيعي داخل مجتمعات غرب أفريقيا متأرجحة بين المهوِّلين من خطرها على الانسجام الاجتماعي، والمقلِّلين من شأنها باعتبار الأمر مجرد ظاهرة محدودة لا تأثير لها.
الصوفية
في الوقت نفسه استطاعت إيران والقوى الشيعية المرتبطة بها ربط علاقات مع بعض المؤسسات والتيارات الإسلامية المحلية، خاصة بعض الجماعات الصوفية؛ وقد ساعد على ذلك عاملان؛ أحدهما: التألق الذي حظي به بعض الجماعات الشيعية العربية خلال العقدين الماضيين بسبب مواقفه في مقاومة الاحتلال الصهيوني، والثاني: توظيف العداء التقليدي بين الجماعات الصوفية وبعض المدارس الفقهية المحلية من جهة والحركات والتيارات السلفية من جهة أخرى.
حسابات صعبة لمشهد متحول
منذ انطلاق عملية “عاصفة الحزم”، لاحظ المراقبون اهتماماً استثنائياً لدى المملكة العربية السعودية بتوثيق العلاقة مع بلدان غرب أفريقيا؛ حيث استقبلت الرياض خلال وقت متقارب جداً اثنين من أبرز رؤساء دول المنطقة؛ هما الرئيسان السنغالي والموريتاني اللذان تم استقبالهما بحفاوة غير مسبوقة، وكانا موضع اهتمام لافت من قبل السلطات السعودية في أعلى مستوياتها، وليس من التكلف في شيء محاولة الربط بين الزيارتين المذكورتين والتطورات المتعلقة بالأوضاع في اليمن، وما رافقها من مواجهة دبلوماسية وإعلامية بين طهران والرياض، لاسيما إذا استحضرنا العلاقات المتميزة التي ربطت كلاً من السنغال وموريتانيا بإيران خلال السنوات القليلة الماضية، وما يتردد من حين لآخر من حديث حول جهود حثيثة تبذلها إيران لترسيخ نفوذها في غرب أفريقيا.
وغير بعيد من السنغال تبدو نواكشوط متفائلة كثيراً بالاهتمام السعودي الطارئ؛ حيث ظلَّت العلاقات بين البلدين فاترة إلى حدٍّ كبير منذ أكثر من عشر سنوات، وإن كانت قد استعادت بعض العافية بعد الإطاحة بنظام ولد الطايع عام 2005م. وبالتزامن مع إعلان نواكشوط تأييدها لعملية “عاصفة الحزم” وشَّح الرئيس الموريتاني سفير إيران بمناسبة نهاية انتدابه في حفل رأى بعض المراقبين أنه قد يتجاوز بُعده البروتوكولي باعتباره حفل توديع روتيني لسفير مغادر ليرمز إلى طي صفحة مستوى من العلاقة لم تعد الظروف التي دعت إليه قائمة.
هناك من يرى أن تطورات الصراع الدائر في المشرق وتنافس أقطابه الكبرى في توسيع نطاق تحالفاتها قد يغري بعض أنظمة بلدان غرب أفريقيا بمراجعة مواقفها وفقاً لمقتضيات تغير موازين القوى، وتبعاً لحركة محاور الخلاف الإقليمي بما يحقق لها مكاسب أكبر، وهي لعبة اعتاد عليها بعض تلك الأنظمة، وباتت تمتلك فيها مهارة خاصة، وتعوِّل عليها كثيراً لتجاوز بعض الأزمات التي تمر بها، لكن الوضع يبدو أكثر تعقيداً هذه المرة، فإيران بنفوذها الإقليمي القوي وبتحالفاتها الدولية المؤثرة وبطموحها الدبلوماسي المعلن يصعب استعداؤها دون أسباب وجيهة، لاسيما في ضوء ما يلوح من بوادر انفراج في علاقتها مع الغرب، وما يفتحه ذلك أمامها من آفاق سياسية واقتصادية واعدة، وفضلاً عن ذلك فإن ما قد يكون مطلوباً من دول المنطقة ربما لا يقتصر على مجرد الاصطفاف الدبلوماسي والإسهام في فرض العزلة على إيران وتقليص مجالات نشاطها، بل سيتجاوز ذلك على الأرجح إلى طلب مشاركة هذه البلدان – ولو بصورة رمزية – في عمليات عسكرية ربما تتطلبها تطورات العملية الجارية حالياً في اليمن؛ والمشكلة أنه ليس مؤكداً أن هذه البلدان لديها الاستعداد الكافي أو الجاهزية المطلوبة لتقديم مثل هذه الخدمة.
المصدر: “مركز الجزيرة للدراسات”