في هذه الأيام العصيبات، والحوادث الخطرات، والوقائع الفاصلات، وما فيها من مفارقات، وما يكتنفها من تفصيلات، وما يحاصرها من ملمات، وما يحيط بها من تعقيدات، تبرز قضية الأخوات الأسيرات، في سجون الطغاة، من الأمور البارزات، والقضايا المحزنات، والمسائل المؤلمات، وأعتبرها من أكبر الملمات، وأكثر المزعجات، وأفظع الكارثات، وتصيبنا نتيجة هذا أبشع الحسرات، كيف لا وهن في قبضة من لا يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة، في أقبية معتقلات، لو لم يكن فيها من ألم إلاً هذه الأقبية لكفى ألماً! كيف وهن يعذبن ليل نهار، بكل أنواع الأذى، وصنوف التنكيل، المادية والمعنوية، بيد من يحسبون على الأمة، وعلى الوطن والوطنية؟!
وفي ذكرى ذكراهن، أرسل هذه الرسالة، لعلها تؤدي بعض ما ينبغي أن يقام به، وهو أقل الواجب، فأقول لهن:
أنتن رمز الصمود، وعنوان التحدي، وبارقة الأمل، وبقعة الضوء العالية، يا حرائر الخير، ويا صانعات المجد، صبركن علامة فارقة في عالم الجهاد، واحتسابكن هذا الذي يقع عليكن في سبيل الله، من أجل إقرار قيم الحق والعدل والكرامة والحرية، والدفاع عن حقوق الإنسان، على منهج الإسلام.
جهادكن هذا صفحة من نور، في سجلات الفضيلة، وتراجم الشرف، ودواوين العفاف، وأسفار الخلود، نعم أعلم أنهم شتموك بأقذع الألفاظ، وأسوأ الكلمات، ونالوا من لحمك وعظمك، بسياطهم العمياء المجرمة، وعصيهم الخشنة، وأدواتهم الشيطانية، وأدري أن سياط ألسنتهم الحداد، التي قد سلقوك بها، أشد عليك من سياط الضلال، التي أكلت من لحمك ودمك، لأنها تأكل من أعصابك ونفسيتك، لكنك أنت تبقين الأرقى والأكرم، يا رمز الطهر، ومادة العفاف، وقمة الفضيلة، وأنا متأكد أنه لم ينالوا من إرادتك، ولم يفتُّوا عزمك المتين.
شامخة بقوتك
يا أخواتي، أنتن ذكرى السيدات سمية وعائشة ونسيبة والخنساء وغيرهن – رضي الله عنهن – ذكرى سلف هذه الأمة من الصديقات والصالحات، وكيف أنكن امتداد لذلك الجيل، وتلك المرحلة المباركة، فالطريق هو نفس ذلك الطريق، والمنهج ذات المنهج، والفارق الوسائل والأدوات، وبنفس الوقت فإن الظلم الواقع عليكن لعنة على السجان، وسبة على الطاغية، وفضيحة للعالم الذي يزعم التحضر، وكشف لزيف مدعي حقوق الإنسان، هؤلاء الذين صمتوا على ما يجري، وخرسوا أمام ما يحدث، وجعلوا في أذن عجينة الكيل بعدة مكاييل، وفي الأذن الثانية طينة سدوا بها منافذ الولوج إلى قيم الإنسانية، ومعاني الرحمة.
يا أختاه أنت شامخة بقوتك التي تناطح الجوزاء، وأنت تواجهين القهر، وتتحدين الجبروت، وتبصقين في وجه صناع الجريمة، وتركلين بقدم الثبات زارعي الرعب، وناشري الخوف، ومثيري الفزع في النفوس.
تحية لك، وأنت تعانين، إذ لم يرحموا أنوثتك، ولم يقدروا أنك مربية الأجيال، وواحدة من بناة الحياة، على قوانين الرشد، وقواعد ديمومة الدنيا، بأشعة العطاء والبذل، حيث لا يوجد في الفانية نظير لك في هذا.
لم نقم بالواجب علينا فعذراً، نقول هذا والألم يعصر قلوبنا، ويفطر أكبادنا، أيتها الأخت الحانية، والأم الرؤوم، والبنت الحبيبة، والزوجة الصالحة، والخالة الحنون، والعمة الفاضلة، والكنة المباركة، والجارة العفيفة، والمدرسة التي يفوح عطر خيرها في كل بيت وصل فيض علمها فيه، والطبيبة التي كانت مضرب المثل بأمانتها وخدمتها، وسهرها على راحة الآخرين.
حتى قال عنك من قال: إنك شمعة تحترق من أجل أن تضيء للآخرين، دروب الرجاء، بل أقول لك: أنت أكبر من هذا الوصف، لأنك لا تحترقين، بل أنت الشمعة التي تشع على من حولها دون أن يؤكل منها شيء، أما لو سئلت كيف هذا؟ أقول: هو حكمة ربانية، صنعت منك هذه الثنائية، وأنت تحت أقدامك الجنة.
سامحينا، وأنت في محبسك، بين يدي جلاد، لا أستطيع أن أصف وحشيته، وعاجز عن تحليل نمط شخصيته، وغير قادر على الشرح الذي يفسر حقيقة إجرامه، وفظاعة ساديته، فلا يرحم صغيراً، ولا يوقر كبيراً، ولا يعرف لأهل الشرف مكانتهم، ولا لذوي المنزلة منزلتهم، بل هو عين الخسة، وعنوان السفه.
سامحينا وأنت تتنفسين رائحة الدم، وتستنشقين هواء الضيم، وتتزينين بعطر المحنة، وترتشفين عناء الليل والنهار، وتتدثرين بغطاء البلاء، وتعانين من حرقة الفراق، والحنين إلى الأبناء، ولا تعلمين بأن كثيراً منهم صار تحت التراب، وقضى تحت أنقاض البراميل العمياء، ولكن بنفس الوقت أبشرك، بأن من بقي من أبنائك الأخيار، على العهد، كما تتمنين، لم يقيلوا ولم يستقيلوا، وهم في ميادين الكفاح، كبار، رغم حداثة أسنانهم، بهم نباهي، وعليهم – بعون الله – نراهن، هم الجيل الذي يصنع على عين الله، وسيملأ الدنيا نوراً وبركة وحضارة وعلماً.
قامة رفيعة وسط الأقزام
سامحينا، أيتها الكبيرة، التي اعتادت ألا تأكل حتى يأكل كل من حولها، ولا تشبع حتى تطمأن أن كل من يحيط بها قد شبع، سامحينا يا من لا تنام إلا عندما ينام الصغير والكبير، وها أنت كسرة الخبز النظيفة، صارت حسرة عليك، وأصبحت كأس الشاي أمنية أن تصل إليك.
نعم فقدنا صوتك الرخيم، وشدوك الذي ينام الأطفال على أنغامه، ويستمتع به من يسمعون، وربما وصل هذا إلى بيوت الجيران، في حاراتنا الضيقة.. حقك علينا كبير، وواجبك عظيم.. سامحينا إن خذلناك، فلم ننصرك بما نستطيع.
سامحينا إذ كدنا ننساك، وأنت بين يدي وحوش البشر.. أستغفر الله! لقد أسأت للوحوش، سامحينا أيتها القامة الرفيعة، في زمن الأقزام، وفي وقت الرويبضة، وفي عالم التراجع، وأيام الانكسار.
سامحينا إن شغلتنا أموالنا ونساؤنا وأولادنا عنك؛ فأنت الماعون الواسع الذي يستوعبنا جميعاً، سامحينا، إن لم نعش مشاعرك، ونتلمس همك، وفاتَنا “كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد، بالسهر والحمى”.
الأيام دول
سامحينا، فقد انتفش الباطل وعربد، وأزبد وأرغد، ربما لأنه لم يجد من يقلم أظفاره، ويقص أجنحته الصناعية، لأننا في أيام الصمت المطبق، والخذلان المريع.
سامحينا أيتها الأمل الباسم، الذي ينادي على جبال المجد، بأن المستقبل لأبنائك البررة، وأحفادك الأخيار، وتلامذتك النجباء، وذراريك الفضلاء، وأرى بسمتك – رغم شحوب الوجه، وقلة البريق، ومظاهر الإعياء – إشعاعاً يبشر بغد باسم، وحرية بيضاء، ويوم بلا سجون أحرار، ونهار بلا طغاة، وليل بلا جلاد، وفجر بلا نكد زواره، من مثيري الشغب، وناشري الفزع؛ (وبشر الصابرين).
أما سجانوك، وجلادوك، ومعذبوك، فإلى قمامة الإجرام، في مزابل العفن، وسباطة النتن، حيث لا يوجد لهم مكان إلا هناك، تلعنهم الأجيال، وهم سبة الزمن (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).
أيتها الحرة في محبسك، لا تحزني، وكفكفي دمعتك، ولا تندبي حظك، أقول هذا، وأنا أدري أنك أكبر من ذلك، ولكنها الذكرى، فأنت رفيعة القدر، عالية الهمة، واسعة الصبر، كثيرة الفضل.
يا أختاه، الأيام دول، والأحداث قلب، وبقاء الحال من المحال، سنراك قريباً، حيث المكان الذي يليق بكرامتك، ورفعة شأنك، وسمو منزلتك، وعلو مقامك (فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).
ورغم هذا نُصرُّ على أن تسامحينا؛ لأن قلبك لا يسمح إلا بهذا.. فسامحينا.