أنا على يقين من كل التجارب أن دخْل الزوجة سبب رئيس لفشل الزواج بالانفصال أو الانعزال النفسي
البعض يختار نموذجاً ثقافياً سيئاً من معارفهم ثم يهيئون أنفسهم لاستقبال المشكلة نفسها التي عايشها غيرهم
بعض الفقهاء أفتوا بمساهمة الزوجة في الأعباء المنزلية بنسبة محددة نظير استقطاع وقت عملها من وقت العائلة
اعتماد الزوج على دخل زوجته حتى وإن أظهرت موافقتها له أثر سلبي على دفء العلاقة الزوجية
على الزوج أن يؤسس بيته على ما رزقه الله فقط ولا يُدخل في حساباته أي دخل من زوجته
الزوجة الفاضلة إذا شعرت بالأمان فلن تبخل بمالها وجهدها حتى تحافظ على بيتها
السعادة الزوجية لا يمكن أن تتحقق بالحقوق والواجبات بل بالعفو والفضل
يمكنك إرسال استشارتك على أحد العنوانين البريدين التاليين:
info@mugtama.com
y3thman1@hotmail.com
أستاذي الكريم، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته..
في الواقع الحمد لله ليس لديّ مشكلة، ولكن هو تخوّف من مواجهة مشكلة مستقبلية، هي ليست مشكلة عادية يمكن أن تحل برأي في جلسة حوارية، لكن من واقع ما تراكم لديّ من معلومات من أصدقائي أو ما أعايشه مع أقاربي تمثل بؤرة مولّدة للعديد من المشكلات؛ ألا وهي العلاقة المالية بين الزوجين، وسبب توجّسي بل وترقّبي لحدوثها ورعبي من أن تدمر حياتي الزوجية أنني على يقين من كل التجارب التي أمامي أن دخْل الزوجة سواء أكان من العمل أو من الميراث أو الهبة إذا كانت لا تعمل سبب رئيس لفشل الزواج سواء بالانفصال الفعلي بالطلاق أو الانعزال النفسي وفقدان المودة الزوجية.
وبعد هذه المقدمة التي توضح تصوري لعلاقة لم تبدأ بعد، حيث أنا شاب أشغل منصباً يوفر لي دخلاً لا بأس به، عُقد قراني على فتاة من أسرة طيبة والأمور والحمد لله تسير على ما يرام، وهي تعمل وتحصل على راتب طيب يفوق راتبي بقليل، وأنا لم أسألها عن قيمة الراتب، وهي لم تقل صراحة، ولكن هذا ما يبدو لي، ولم نتناقش من قريب أو بعيد تلميحاً أو تصريحاً عن تنظيم علاقتنا المالية بعد الزواج، وأنا متحرج أن أفاتحها.
لكن سيدي، ألا ترى معي أن عليها أن توضّح كيف ستتصرف مالياً؟ وما مقدار مساهمتها في الحياة الزوجية، أم أترك الأمور دون حسم، ومستقبلاً يحدث بيننا صدام، خاصة أن الوقت المستغرق في العمل مستقطع من وقت البيت، وعليها أن تعوّض ذلك مادياً؟
أستاذي الفاضل، هذا ما يدور في ذهني من أفكار، وأنا منتظر رأيكم، وجزاكم الله خيراً.
التحليل:
أولاً: أود بداية أن أوضح أن مستوى ونوعية البيئة الثقافية التي نعيشها تساهم في صياغة طريقة تفكيرنا ومعايير التقييم والحكم على ما نواجهه من مواقف، وقبل عصر الإنترنت كانت الطبقة الاجتماعية هي التي تشكل الإطار والمعين الثقافي للعائلات التي تنتمي لكل طبقة اجتماعية، وكانت السمات الثقافية هي الفيصل وليست السمات المادية رغم تأثيرها، أما في عصر الإنترنت والانفتاح على كل الثقافات؛ فأصبح كل إنسان إلى حد كبير يمتلك القرار في اختيار ثقافته وصياغة عالمه الافتراضي الذي يرتضيه لذاته، وبما يتناسب ورغباته وتوافقه النفسي.
أوضحت هذه المقدمة لأن ابننا العزيز وكثيرين غيره يختارون نموذجاً ثقافياً سيئاً يستمدونه من معارفهم، ثم يهيئون أنفسهم لاستقبال نفس المشكلة التي عايشها غيرهم بسلبية أفكارهم، بل ويجذبونها جذباً في واقعهم بعد أن عايشوها في عقولهم وأنفسهم.
إن الفهم الخاطئ للتعامل مع نعمة المولى عز وجل هو الذي يحوّلها إلى نقمة، فمال الزوجة نعمة وفضل من الله، ولكن إذا تعاملنا معه بمفاهيم وقيم مغلوطة سندمر حياتنا الزوجية بل وكل حياتنا، وإن لم نتب سيكون وبالاً علينا في الآخرة.
ثانياً: إن الشيء الإيجابي الوحيد في رسالة ابننا هو سعيه لمعرفة كيف يتعرف، وعرضه لما يدور في ذهنه، بدلاً من الانغلاق على التراث، والتصرف بناء على مفاهيم خاطئة، ثم نفاجأ وقد تعقدت الأمور وأصبح ثمن الإصلاح غالياً.
ثالثاً: أود أن أوضح أني لن أتناول المسألة المالية في العلاقات الزوجية من الجانب الشرعي، فهناك علماء أفاضل تناولوا ذلك، ولكن سأتناولها من الجانب الوجداني والآثار النفسية للعلاقات المادية بين الزوجين.
نقول بعد حمد الله: إنه من المستقر شرعاً انفصال الذمة المالية للزوجة عن الزوج، ولا يحق لنا أن نستحل مال أي إنسان إلا بطيب نفس بمن فيهم الزوجات، وقد قال عز وجل: (وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً {4}) (النساء)، كما لا يحل لنا أن ندفعهن -دون أمر مباشر- أن ينفقن من أموالهن التي قد أعطيناهن إياها، كأن نغلظ الحديث، أو نحجم عن إبداء رغبتنا العاطفية لهن، أو نتجاهل حقوقهن الشرعية الخاصة، فإن أنفقن نبدي لهن ما يسرّ قلوبهن، وكأن العاطفة وحسن المعشر مقابل ما ينفقن، وقد قال العليم الحكم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً {19}) (النساء)؛ فإنفاقهن في هذه الحالة يكون كرهاً وجبراً وإن لم يكن نتيجة أمر مباشر من الزوج، ولكن هو ربط معاملته الطيبة لزوجته بإنفاقها، وقد ورد في الحديث: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»» (أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، وصححه الألباني).
ومع علمي أن بعض الفقهاء أفتوا بأنه على الزوجة العائلة أن تساهم في الأعباء المنزلية بنسبة محددة من دخلها نظير استقطاع وقت عملها من وقت العائلة؛ مما سيؤثر على كفاءة أداء أعبائها العائلية، وكما أوضحت أنا لن أناقش حجية الرأي الفقهي، فلذلك رجاله، ولكن أنا فقط سأتعرض للحالة النفسية لعائلة تقوم العلاقة المالية فيها بين الزوجين على الاتفاقات بالدفع والقبض وكأننا في شركة لإنتاج الأولاد، يفقد فيها الزوجان أجلّ ما في العلاقة وهو الاحتواء من جانب الزوج لزوجته، وإحساسها بطعم جميل يشعرها بقيمة قوامة زوجها وقد غض الطرف عن مالها، ثم هل من حق الزوج في هذه الحالة أن يحصل منها على النسبة المتفق عليها؟ وإذا ما اتفقا واحتاج الأولاد إلى تكثيف الدروس فمن يتحملها؟
حقيقة من واقع ما عايشت من المشكلات المالية الزوجية أجد أنها لا تفقد فقط الزوجة الطعم الجميل لسمو العلاقة الزوجية التي يجب أن تجنبها هذا الهراء حول المال، بل أيضاً تدخلها في متاهة من التعقيدات تنتهي للأسف بأن يكون عين كل منهما على كشف حساب البنك الخاص بالآخر.
وقد أسرّ لي أحد الأزواج أن زوجته لا تحبه، ولن يفاجأ إذا ما خلعته! وعندما سألته: هل هي مقصرة في واجباتها المنزلية؟ أجاب بالعكس هي تتفانى! هل هي مقصرة في علاقتها العاطفية أو الخاصة؟ أجاب بتردد «لا»، فتعجبت واستفسرت مندهشاً: إذاً كيف استنتجت عدم حبّها لك؟! قال: نحن اتفقنا على أن تدفع 25% من دخلها وتدّخر الباقي كله، وأنا أقوم بكل طلبات البيت وأساعد أهلي ولا أدخر إلا القليل، سألته عن آخر هدية أهداها لزوجته؛ فنظر لي مستنكراً: هدية؟! لماذا؟ إن لها راتباً!
أنا أعلم أن بعضهم قد يستنكر كلية ما أقول، ولكن للأسف أن بعضهم يعيش ما أقول، لذا فإنني أرى -حفاظاً على قدسية العلاقة الزوجية، وألا يقع الزوج في الحرام أو الحرج الشرعي- أن يلتزم كلية وطبقاً لطاقاته (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ) (الطلاق: 7) بكل التزاماته المادية والمعنوية تجاه زوجته، وحتى يشعر بلذة وسعادة الإنفاق ويُشعر زوجته بلذة وسعادة التزامه بها.
الآثار:
إذا ما اتفق الزوجان على نسبة ما تدفعها الزوجة من دخلها، أو التزامها بدفع بعض بنود الإنفاق الأسري، فهذا ليس معناه حل المعضلة المالية بينهما، فكثيراً ما يحدث أن تأتي مواقف يجد فيها الزوج أن على زوجته الالتزام بالمساهمة المالية فيها، وترى الزوجة أنها غير ملزمة بذلك، وإن لم ينفرج الموقف وأرغم أحد الزوجين؛ فسيترك ذلك في نفسه شيئاً، ومع المواقف سينفصلان نفسياً وتطغى التصرفات المالية على المشاعر الجميلة، ويفقدان المودة والرحمة.
وفي المقابل أيضاً، إذا لم يتفقا وترك كل منهما الأمر حسب الموقف؛ فعادة ما تكون التوقعات أعلى بكثير من الواقع، ويصبح لكل موقف معركة، ويقعان في الدوائر الشريرة.
إذاً في كل الأحوال، فإن اعتماد الزوج على دخل زوجته حتى وإن أظهرت موافقتها له أثر سلبي على دفء العلاقة الزوجية، ويفقدها لذة الشعور بإنفاق الزوج، والاعتماد عليه في كفالة احتياجات زوجته، وهو شعور لا يُسعد فقط الزوجة لكن يقوي علاقتها بزوجها.
الحل:
أرى أنه على الزوج أن يؤسس بيته على ما رزقه الله من رزقه هو فقط، ولا يُدخل في حساباته مطلقاً أي دخل من زوجته، ويحذر أن يربط علاقته بزوجته على ما قد تبديه من فضل مالها؛ حتى لا يرتبط لديها أنها تتحكم في عطاءاته العاطفية وسلوكه معها بناء على ما تنفقه من مالها الخاص، بمعنى أن يوزع دخله على ميزانية التزاماته والموازنة المناسبة بين عناصر الإنفاق المختلفة دون إسراف أو تقتير، وأياً كان دخل زوجته؛ فعليه أن يخصص الجزء المناسب للإنفاق عليها، وأن يهديها الهدايا كل حين حسب ما تيسّر، مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «تهادوا تحابوا» (رواه البخاري في الأدب المفرد)، ولا يخطط ميزانيته على أن الزوجة سوف تساهم بشيء ما، فإن فعلت عن طيب نفس فجزاها الله خيراً، ولكن يجب ألا تكون مساهمتها جزءاً أساسياً يعتمد عليه في ميزانية البيت، ولكن يمكن اعتبارها جزءاً تكميلياً أو تحسيناً لمستوى المعيشة المنزلية، فمثلاً إن كانت إمكانيات الزوج تسمح فقط بشراء ملابس في حدود 500 دينار سنوياً للأسرة، وأضافت الزوجة بعد ذلك ما أضافت فلا حرج في هذا.
وهنا أود أن أذكّر بالآية الكريمة: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {237}) (البقرة)، فرغم أن العلاقة الزوجية قد انفصلت عراها ووقع الطلاق؛ يذكرنا المولى عز وجل بألا ننسى الفضل بيننا، فما بالنا ونحن ما زلنا أزواجاً؟
إن الزوجة الفاضلة إذا شعرت بالأمان والطمأنينة في بيتها، ورأت من زوجها الترفع عن الطمع في مالها، وأنه يبذل الجهد للقيام بأعباء الزوجية، ولا يعضلها أو يحرجها أو يستغل حياءها؛ فإنها لن تبخل ليس بمالها بل بجُلّ جهدها حتى تحافظ على بيتها.
ومن وجهة نظر أخرى: على الزوج أن يدرك أن أي مدخرات لزوجته سوف تعود على أبنائهما.. إذاً، فلماذا تدني النفس بالطمع في مال الزوجة؟ ولماذا فتح باباً من الشقاء بالحديث عن الحق في نسبة من دخلها؛ لأنني سمحت لها بأن تعمل، واستقطعت وقت العمل من وقت العائلة؟
إن السعادة الزوجية لا يمكن أن تتحقق بالحقوق والواجبات؛ لأنها برغم النص الشرعي الواضح عليها فإنها عملياً تختلف من بيت لآخر، بل من وقت لآخر بالنسبة لنفس البيت، ولكن على كل زوج أن يعرف حقه ويعوّد نفسه بالعفو عنه، ويعرف واجبه ويزيد بالفضل عليه؛ (وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {134}) (آل عمران).
بهذا المعنى تتحقق المودة والرحمة، نسأل الله أن يديمها على بيوت المسلمين.