الصوم ليس جوعاً وعطشاً، على نظرية الجوعية، وليس فلسفة للوصول إلى خرق العادة، كما هو عند بعض الديانات الوضعية، ولا القصد منه تعذيب النفس، على من يقول ذلك من أهل بعض الفلسفات، ولا يمت إلى نظرية “اللذة في الألم” بأي صلة ولا بشعرة من رابط.
نعم هو امتناع عن الطعام والشراب والجماع، مع النية، من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس، وله شروطه المنضبطة، وأركانه المعلومة، وسننه محصية مذكورة، وله مقاصده العظيمة، وأسراره الكبيرة، التي تعمل على بناء الفرد والأسرة والمجتمع والأمة، على قيم الرشد، وتعاليم السماء، ومنهج الفضيلة، الحكم الراقية، بعيداً عن كل مظاهر السرف، ومفاهيم التضييق، إنه الصوم.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {183} أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {184} شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {185}) (البقرة).
فمن مقاصد الشرع في الصيام، وبيان أحكامه، نذكر ما يأتي:
1- الصوم عبادة لله، وطاعة له: فالصائم ينوي الصيام، ولا يريد بذلك إلا عبادة الله، فهذا المعنى، مقدمة لكل خير، وبذلك يستحق لقب “عابد” ذلك أن من فعل ذلك حصل على رضوان الله تعالى، ومن حصل على هذا، كان من سعداء الدارين. (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {97}) (النحل).
إن المرء بطبيعته يبحث عن السعادة، وينشد مصادرها، ويبحث عن مواردها، فهي غاية كل إنسان، من هنا ألفت الكتب الكثيرة، في هذا الباب، ونشرت أبحاث وفيرة فيه، ومراكز الإرشاد النفسي، ملأت الدنيا ضجيجاً في هذا الشأن، والحق أن السعادة مجموعة في طاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ففيهما معالم السرور والحبور، وعلى ضوء سلوك مناهجهما تكون السعادة، وتتكون ركائز الخلاص المنشود.
فيا من يبحث عن السعادة، فإن مظانها، يكمن في ذكر الله وطاعته وعبادته “ألا بذكر الله تطمئن القلوب” فلا يمكن أن تجد سعيداً من البشر، وهو بعيد عن هذا المعنى. كما كان حال السلف كلهم يقول: نحن في نعمة لو علمها الملوك، لجالدونا عليها بالسيوف.
كما أن الشقاوة كلها مجموعة في معصية الله ورسوله، قال تعالي: (وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً {71}) (الأحزاب).
فالشقاء كله سببه، الإعراض عن منهج الله تعالى، والانغماس في المعاصي والارتكاس في حمأة الذنوب، فأثر الذنوب على الأمم والشعوب، معلوم ومعروف، في الماضي والحاضر، والحضارة المادية الصارخة – في بعض البلدان – تعاني من هذا أشد المعاناة، ولا نجاة لها –حتى تفيد من ماديتها– إلا أن توازن بين المادة والروح، والثروة والخلق، والدنيا والآخرة. ومما لا شك فيه أن الصوم، مفردة من المفردات المهمة التي تكون سبباً من أسباب السعادة، فكم يجد المرء من راحة في الضمير، وبهجة في النفس، وطمأنينة في الروح، وهو يؤدي هذه العبادة المباركة.
يأتي الصيام، بفقهه الصحيح، ليعيد الأمور إلى نصابها، وينسج للبشرية أعشاش أمانها، وكهوف استقرارها، كيف لا ؟! والله كتب علينا الصيام كما كتبه على الذين من قبلنا، فلا غنى للإنسانية عن هذا المطلب العظيم، إذ به يكتمل البناء، مع سائر شرائع الله تعالى الأخرى، مصنوعاً على عين الله تعالى، على أسس الإيمان وقيمه وركائزه وأركانه.
2- وهذا المعنى بدوره يعلمنا الإخلاص لله تعالى: ومن كان مخلصاً، فقد حاز الرتب، ونال الدرجات العالية، وفاز بمعية الله تعالى، فيصير منصوراً بالله، ومؤيداً به، فالإخلاص باب الولاية الأعظم للمسلم، ومقدمة ضرورية لكل بداية.
عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه” (رواه البخاري).
ومن كان ولياً لله تعالى، نال عز الدنيا، وفخر الآخرة.
أخرج الإمام البخاري في صحيحه: عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ”.
3- الجندية لله تعالى: اليوم نصوم بأمر الله تعالى، وفي يوم العيد نفطر التزاماً بما أمر الله تعالى، هذه الجندية هي التي بها يكون فلاحنا، وبمثل هذه الجندية، يكون النصر لنا، وتكتب لنا الغلبة على عدونا، فمن خصائص جند الله تعالى، أنهم يتلقون الأوامر لينفذوا، ويسمعون النواهي ليجتنبوا.
4- الصوم يدربنا على التواصل المجتمعي: حيث الشعور بمشاعر الآخرين، والصوم يصنع فينا الصفاء، ويدفعنا نحو الرحمة، فنتفقد الأرامل والأيتام، ونخص الأرحام بالعناية والرعاية والاهتمام.
5- الصوم يعلمنا جسدية الأمة: حيث التواد والتراحم، خصوصاً مع حصول الشكاية، وما أكثر جراح المسلمين هذه الأيام، ومن فطر صائماً فله مثل أجره.
6- فقه الصوم يرشدنا إلى الوسطية والاعتدال، ونبذ الغلو و (التطرف): رغم فرضية الصيام، لكن المسافر يباح له الفطر، ومن كان مريضاً فعدة من أيام أخر، والسحور بركة، وتعجيل الفطور سنة، ونهينا عن صوم الوصال، وصوم يوم العيد حرام، فلا إفراط ولا تفريط، والله يريد بنا اليسر، ولا يريد بنا العسر، وهكذا تتشكل الشخصية المسلمة المتوازنة.
7- التزكية والسلوك على قيم الربانية: الصوم مدرسة التقوى، فهي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل، حيث الصفاء والنقاء، والتمسك بقيمة المراقبة لله، في الظاهر والباطن، والسر والعلن، والخلوة والجلوة. والصوم يعلمنا الصبر، وتحمل المشاق، ويبني فينا معاني المجاهدة، الصوم يلجم شهوات النفس، حتى تستقيم، على أخلاق النبل، ويعلمنا الصوم كيف نعالج مشكلة الجنوح، في عالم الشهوات، مع ضبطها وربطها، وفي المقدمة منها، شهوة البطن، وما في ذلك من مصائب وكوارث، وشهوة الفرج، وكيف أن استطالتها تؤدي إلى مصائب وكوارث. أما آفات اللسان، وما أدراك ما آفاته؟! يأتي الصوم ليربينا على معالم ضبط اللسان، فلا يصخب، ولا يشتم، ولا يسب، ويتجنب أخلاق الشوارع، ولا يقول كلاماً بذيئاً، ولا يشهد الزور، يداري ولا يداهن، ولا يدخل في عالم اللغو، وفحش القول، فإن سابه أحد، أو شاتمه، التزم أخلاق الربانيين، فيقول: إني صائم. وبهذا ينجو من الوقوع في حمأة مرذول السلوك.
8 – صوموا تصحوا: رمضان له فوائد صحية عظيمة، ويتضمن جملة من محامد التي يعود نفعها على صحة الإنسان، ولما لم أكن عالماً بالطب، فسأكون ناقلاً خلاصة ما ذكرته سمر هادي، عن فوائد الصوم الصحية، فيه غنية، تناسب المقام، حيث كتبت تقول: [فالصيام ممارسة صحية فعّالة، إن تم تطبيقها بالشكل الصحيح. فالصيام يساعد على التخلص من السموم خارج الجسم، ويقلل من نسبة السكريات في الدم، كما يعمل على خفض تخزين الدهون. وبالإضافة إلى ذلك، فيعزز الصيام العادات الغذائية الصحية، كما يعمل على تقوية جهاز المناعة. وإليك أهم فوائد الصيام الصحية:
- الصيام يعزز إزالة السموم.
- فيساعد ذلك على التخلص من السموم من خلال الكبد والكلى وباقي أعضاء الجسم المسؤولة عن التخلص من السموم.
- الصيام يعمل على راحة الجهاز الهضمي.
- الصيام يساعد على علاج الالتهابات.
- بعض الدراسات قد أكدت أن الصيام يساعد على شفاء بعض الأمراض من الالتهابات والحساسية كالتهاب المفاصل، والصدفية.
- الصيام يساعد على خفض مستويات السكر في الدم.
- الصيام يحفز خسارة الوزن.
- الصيام يحفز خسارة الوزن بسرعة.
- يعمل الصيام على منع تخزين الدهون في الجسم.
- الصيام يعزز العادات الغذائية الصحية:
فقد لوحظ أن الصيام يساعد على خفض الشهية تجاه تناول الأطعمة الجاهزة.
فبدلا من ذلك، يحفز الصيام الرغبة في تناول الأطعمة الصحية، وخاصة الماء والفواكه.
- الصيام يعزز الجهاز المناعي:
فعند اتباع نظام غذائي متوازن بين فترات الصيام، فيساعد ذلك على تعزيز الجهاز المناعي، إزالة سموم الجسم وخفض تخزين الدهون. وعند تناول الفواكه للإفطار، فهذا يساعد على تعزيز المحتوى الغذائي للجسم من الفيتامينات والمعادن. أيضا فيتامين A وE هي عناصر ممتازة لمضادات الأكسدة، وهي تساعد على تقوية جهاز المناعة أيضا.
هذا هو الصوم، فيا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.