في مثل هذه اليوم العطر منحنا هدية ربانية عظيمة جدا من المنان، فقد أهدى للبشرية كلها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، والذي جاء إلى الحياة الدنيا ليعلي من شأن الإنسان إيمانيا وأخلاقيا انطلاقا من ترسيخه لمنظومة قيم فعالة تمكن الإنسان من رفع مستوى وعيه وفهمه وبصيرته، بحيث استطاع أن يكرس جهوده لتحقيق الحق والعدل والحرية والمحبة والطهر والنقاء والصفاء.
لهذا تعد القيم المحمدية قيما بناءة وضرورية لصلاح حياة الفرد والمجتمع والأمة البشرية، لأنها قيم إنسانية إيجابية واقعية وثابتة الأصول والمقاصد، ومرنة في التطبيق، كما أنها تساير حاجيات الإنسان في كل زمان ومكان، لأنها مضبوطة بضوابط الهدي النبوي المستمد من القرآن الكريم، وتهدف هذه القيم في الأساس إلى توجيه سلوك المرء نحو الصواب الأخلاقي في كافة مجالات حياته، وبناء شخصيته الإنسانية القويمة، وتحقيق التوافق النفسي والاجتماعي، كما تسهم في إعطاء المجتمع وحدة وتماسكا وقوتا.
زهق الباطل وانهدت قلاع الظلم الغاشم وزال جبروت الجاهلية، فتنسمت الدنيا رياح الحق والعدل والتسامح والمودة والتراحم والصدق والإخلاص والإيثار، وكلها قيم محمدية لم يكن لها وجود يذكر قبل مولده الشريف إلا من النذر اليسير، فميلاده عليه الصلاة والسلام ليس ذكرى عادية بل هي مناسبة عظيمة ينبغي استغلالها بشكل مثالي لا التعامل معها شكليا باعتباره احتفالا عابرا وطقسا روتينيا مؤقت ينتهي بزوال وقته، فلا ينبغي أن تكون علاقتنا بالنبي صلى الله عليه وسلم على هذه الشاكلة بعيدة عن الاقتداء الحقيقي لما جسده لنا في واقعه العملي لحياته المضيئة والمشرقة في كل مناحيها.
فقد ضرب للبشرية أروع وأرقى نموذج قيمي على الإطلاق، ولهذا أمرنا الله عز وجل بأن نتخذه أسوة لنا؛ فقال سبحانه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾، فلا يتأسى به في جميع جوانب حياته إلا الذين يرجون الله واليوم الآخر، أما الذين يعيشون لشهواتهم ونزواتهم فهم بعيدون كل البعد عن الاقتداء به، لأنهم غارقون في مستنقع الدناءة والرذيلة وسوء الخلق، فلا همَّ لهم إلا إشباع لذاتهم وغرائزهم الحيوانية.
وما لا شك فيه أن القيم المحمدية بمثابة تجسيد عملي لنموذج بشري فريد لا نظير له، وشهادة واضحة على عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، لهذا فتبني القيم التي حملها في سلوكياتنا هو أساس قوتنا ولب فلاحنا وعزتنا، فبها يصير المرء مخلصا صادق القول والفعل، شريف النفس وتقي القلب، غنيا بكرامته واحترامه لذاته التي لا يرضى لها المهانة، لأنها صمام أمان للأخلاق الحسنة، وأساس جوهري لتحقيق الرفعة الإنسانية.
إن غياب البوصلة القيمية في المجتمعات المعاصرة هو الذي أسهم بشكل كبير في خلق أزمة أخلاقية في ظل عدم وجود الرادع القيمي، فمعظم المشاكل البشرية القائمة اليوم سيسهل حلها لو أننا تبنينا القيم التي كانت تتمثل في سلوك وتصرف الرسول صلى الله عليه وسلم؛ والتي بها استطاع أن يرعى ويصون ويعزز حقوق الانسان، ويساوي بين كافة طبقات المجتمع دون تمييز، فكان شعاره الدائم قوله عز وجل: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، كما أنه دافع عن تلك الحقوق بكافة الوسائل المشروعة والمتاحة قبل النبوة وبعدها في مجتمع كانت تسوده مظاهر الاستبداد والجهل.
لقد اكتملت قيم الحق والهدى والخير والصلاح في المصطفى صلى الله عليه وسلم على مدى حياته، لهذا ينبغي أن يكون المولد النبوي الشريف ذكرى عطرة لترسيخ القيم المحمدية، فتعزيز مكارم أخلاقه وتأكيد الحب له لا يكون إلا بصدق الإتباع له؛ بالتأسي به في رحمته وعدله وسماحته، وفي بذله وعطائه وكرمه، وفي إقدامه وصبره وتضحيته. إن إحياء ذكرى المولد النبوي فرصة لإعادة قيم التضامن والتعاون في تصرفاتنا، وتقوية الروابط الإنسانية وجعلها أكثر متانة، ونبذ الانقسام والفرقة وتحاشي الضغائن؛ بالعمل على وحدة الصف وتنقيه القلوب من الاحقاد وتقويم النفس من الاعوجاج والانحراف، فبفضل قيمه نال الرسول صلى الله عليه وسلم مكانة عظيمة.
إن المسلم الذي لا تتجسد قيم الرسول صلى الله عليه وسلم في سلوكه ولا تعيش في ضميره، لا يمكنه أن ينال أي ثواب إن اقتصرت علاقته برسوله في تغنيه به ومدحه وثنائه والتباهي به، وادعاء محبته له ما دام أنه بعيد عن القيم المحمدية بعد المشرقين، فالتأسي بالمصطفى عليه الصلاة والسلام ليس مجرد ادعاء وإنما هو اتباع في النوايا والأقوال والأفعال والأعمال، والسير على هداه وتبني قيمه والتخلق بشمائله وخصاله، بمعنى أن المقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم لابد أن يكون ارتباطه به ارتباطا وثيقا وعميقا بعيدا عن السطحية التي تتمثل في الظاهر والشكل فقط.
وما أحوجنا في هذا العصر إلى القيم المحمدية، فبدونها يستحيل تحقيق السلام بمفهومه الواسع على كل بقاع الأرض لوقف النزاعات وإراقة الدماء، فتبني القيم المحمدية من الدعائم المكينة للتطور الإنساني والحضاري، لأن بها يحصل التعاضد بين البشر، الأمر الذي يؤدي لا محالة إلى إحقاق الحقوق والتعايش السلمي وإعمار الأرض لبناء حضارة إنسانية ذات أساس قيمي قوي، وتجنب كل ما يمكنه أن يشعل فتيل الحروب وويلاتها والتطرف والإرهاب والفتن ومخلفاتها.
وتظل ذكرى المولد النبوي الشريف مناسبة ضرورية إن جعلناها محطة للتزود بالقيم المحمدية بدوام الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يعقل أن تقتصر هذه المبادرة على هذا اليوم فحسب، بل يلزم أن تكون سلوكا عاما طيلة الوقت، فالتحلي بقيم المصطفى عليه الصلاة والسلام عمل يتطلب الاستمرارية، ولا يمكن أن نقوم به في ساعات محددة فقط، ثم نصنف أنفسنا بعد ذلك ضمن المقتدين بهديه وشمائله.
(*) كاتب وباحث مغربي.
المصدر: “مدونات الجزيرة”.