لم يسلم بشر من متاعب الحياة الدنيا وآلامها وأوجاعها ومرارة المعاناة والفقد فيها، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم ليعلمنا أن النعيم المقيم والسعادة والهناء والحبور والسرور الدائمين ليسوا ها هنا ولكن فيما لدى الله تعالى حينما يصدق فينا قول الله تعالى في الصابرين الذين نرجوه عز وجل أن نكون منهم: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10)، والعاقل الواعي الملم بسنن الكون وضرورات الوجود وماهية وأصل الحياة الدنيا لا يجد حلًا سوى أن يقر ويعترف ويسلم أنها لم تطب وتهنأ وتدوم لبشر من قبله حتى تكون كذلك معه؛ ولا مفر والحال هكذا من التسليم لله والرضا بقضائه وقدره، فطالما أنه تعالى بالغ أمره ونافذ حكمه فينا جميعًا فلماذا لا نستقبل مراده وإن خفي عنا بالتسليم والطاعة الواجبين لواجد الوجود وخالقه من العدم؟ فإن أقداره تعالى ستجري علينا وبنا وفينا سواء رضينا أو لم نرض -والعياذ بالله- فلماذا لا نقبل مختارين مسلمين طائعين مخيّرين ما سيجري علينا ويلم ويحيق بنا وافقنا ورضينا أو لم نوافق؛ ولماذا لا نجعل هذا الأمر في أعمق نقطة من شعورنا بالوجود ومسامات الروح حتى لا نفاجأ بأن قضاء الله وقدره نفذ سهمه فينا وألمت بنا حوادثه فيما نحن غير راضين -نسأل الله الثبات والسلامة- فخسرنا دنيانا هذه القليلة الذاهبة عنا بعد حين يسير، وآخرتنا الوفيرة الخير العميم التي سنبقى فيها أبد الدهر؟ ولنتأمل أولًا هذه الحادثة المهمة:
فعنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: مَرَّ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بامرأةٍ تَبكي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: “اتَّقِي اللهَ وَاصْبِري”، فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي؛ فإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي، وَلَمْ تَعْرِفْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّه النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابينَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفكَ، فَقَالَ: “إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى” (متفق عليه)، وفي رواية الإمام مسلم: “تَبْكِي عَلَى صَبِيٍّ لَهَا”.
كانت المرأة تحب ابنها الذي توفاه الله قبل البلوغ محبة شديدة عارمة، لذلك لما قبض الله روحه بكته بشدة، فأوصاها الرسول العظيم لما رأى شدة حالتها أن تخاف الله وتتذكره تعالى في موضعها هذا وتصبر على آلامها، لكن المرأة لم تتمالك نفسها؛ فردت على الرسول العظيم بما لا ينبغي، فلما ذهبت تعتذر منه صلى الله عليه وسلم، علَّمها وعلَّمنا من بعدها أن الصبر الذي يُثاب ويؤجر عليه أحدنا في الآخرة هو ما يكون ساعة حلول الصدمة الشديدة والمصيبة التي قضاها الله ولم تكن تخطر لنا على بال؛ ولذلك يسن أن يقول أحدنا عندها: “اللهم آجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها”؛ فإن كانت بشريتنا تغلب علينا فنحزن أو نتأثر أو تدركنا رحمة من الله فتدمع أعيننا كما فعل الرسول العظيم عند فقد ابنه إبراهيم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، دخلنا على الرسول صلى الله عليه وسلم وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان؛ فقال له عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله، فقال: “يا ابن عوف، إنها رحمة”، ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: “إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون” (رواه الإمام البخاري).
أما نتاج الصبر وعاقبته ومآله التي يغفل عنها كثير فهو أجر وفير في حياة لا نصب فيها ولا وصب ولا ألم ولا تعب أو معاناة؛ ففي مقابل عمر قليل تتفلت سنونه من بين أصابع الروح بسرعة حتى إننا لا نكاد نلمحها أو ندركها أو نفطن أو حتى ننتبه إليها تنتظرنا سنوات سعادة وهناء ونعيم مقيم تنسينا الدنيا وعذاباتها وترهاتها وأوجاعها، ولا نهاية للحياة في تلك الدار الباقية العزيزة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي منادٍ يا: أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، وكلهم قد رآه، ويقال لأهل النار مثل ذلك، فيذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويأهل النار خلود فلا موت” (رواه الإمامان البخاري ومسلم).
إن زوال الشمس والقمر والوجود الذي نعرفه يمنع تعاور ومجيء الليل بعد النهار والأخير بعد الليل فيزول حساب الزمان والعد الذي نعرفه والتقاويم وما شابه ويذبح الله الموت نفسه كما قال بعض العلماء لا الملك الموكل به، فيبقى نعيم يعوضنا عما لم نتوقعه في الحياة من خيانات بعض البشر وتمسك آخرين بالمكر والخديعة وظلم الطغاة ومصالح المستبدين وانعدام العدالة خاصة في ظل هذه الحضارة الغربية التي لا تعرف الرحمة أو الرفق بالإنسان، ويكفينا أن الحديث الشريف يصور لنا هنيهة من زمان أقل القليل في الجنة أو النار -رزقنا الله الأولى وأبعدنا عن الأخيرة- فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال: له يا ابن آدم، هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط”. (رواه مسلم).
إن حياتنا ومعاناتنا في هذا الوجود قليلة جدًا مقابل ما ينتظرنا من بقاء طويل ونعيم مقيم بلا نهاية، إن علمنا وأدركنا وصبرنا على أنفسنا، ولم ننس أن الرحمة والعدالة والراحة والقرار الحقيقيين هناك لدى رب العزة؛ فأحسنا العمل مرضاة له تعالى واستعنا على أنفسنا بذكره عز وجل وشكره والأمل في معافاته من الفتن والخطأ والزلل المقصودين بعدم الصبر في الدنيا حتى نصل إلى الآخرة غير مبدلين ولا مفرطين في مسؤولياتنا وصابرين على ما أصابنا؛ فنستحق رحمته تعالى وحسن مجازاته، وهل أفضل من الجنة والخلود فيها ونعيمها ورؤية رب العزة فيها؟ وحين ننالها بفضل الله ورحمته وإحسانه تهون وتنتهي متاعب ومشاق وهموم وآلام الدنيا!