فايز النوبي
فقدت مصر يوم الأربعاء الخامس من رجب لعام 1442ه، الموافق للسابع عشر من فبراير لعام 2021م، وفقد الأزهر الشريف والعالم الإسلامي، وطلاب العلوم الشرعية عالما جليلا وفقيها بارعا وشيخا فاضلا يُعد أحد فقهاء الإسلام العظام في عصرنا هو: الفقيه المالكي –والمتبحر كذلك في فقه المذاهب والفقه المقارن– الإمام الزاهد الورع التقي النقي صاحب البشاشة والسماحة والوفاء والكرم، بقية السلف الصالح –نحسبه كذلك والله حسيبه– شيخي وأستاذي وصديق والدي، وصهري، وجد ولدي، شيخنا المفضال العلامة الشيخ الدكتور “أحمد على طه ريان” أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن، وعميد كلية الشريعة والقانون الأسبق، وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، وشيخ السادة المالكية في مصر والعالم الإسلامي، والذي شرُفت بالقرب منه زمنا طويلا، والتتلمذ على يديه في سنوات الدراسات العليا بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة، والتي كان يعتز الشيخ بالانتماء إليها والتدريس بها، ولما لها من أثر في حياته وعلمه، وأثرها في المحافظة على علوم الشريعة والفقه وتراث الأمة العلمي، والذي كان يذكرنا بطلعته البهية، ووجهه المشرق المنير، وسَمْته الطيب، وخُلقه الفاضل، وأدبه الجم، وتواضعه الشديد، وسائر فعله وقوله، بالسلف الصالح، رضوان الله عليهم.
كان -رحمه الله- صوَّاما قوَّاما دائم العبادة والذكر، حريصا على مدارسة العلم ونشره للطلاب والمحبين، ما يلتقي به المرء إلا ويتذكر سلف الأمة من الفقهاء الورعين، والعُبّاد الصالحين فقد كان نبراسا منيرا، وأسوة طيبة بسَمته وسلوكه، تبرز فيه صفات العالم الفقيه الرباني العامل بدينه، والمطبق لعلمه، والذي لا تأخذه لومة لائم في الصدع بالحق، والإفتاء بما يمليه عليه دينه وضميره.
ولد -رحمه الله- في العاشر من شهر فبراير عام 1939م بقرية الرياينة بالغربي قامولا محافظة الأقصر، وتلقى تعليمه الأول في كُتاب القرية، ثم ارتحل إلى معهد بلصفورة بمحافظة سوهاج، وكان يرافقه وقتها والدي الشيخ عبدالله النوبي -رحمه الله-، فقد درسا سويا سنوات المرحلة الابتدائية الأزهرية القديمة، والتي تعدل الإعدادية الآن، وكانت مدة الدراسة بها أربع سنوات، وتأثر هناك بشيوخه الأفاضل، والذين كان يثني عليهم، ويذكرهم بخير حتى آخر حياته، وشاءت إرادة الله -عز وجل- أن أرى هؤلاء الشيوخ في طفولتي، عندما زاروا الإسكندرية للعلاج في منتصف الستينيات، وأتوا لزيارة والدي في منزلنا، وهم العلماء الأجلاء فضيلة الشيخ جمال على بدر، وشقيقه الشيخ زكي على بدر، والشيخ محمود رضوان، وهم شيوخ معاهد سوهاج وبلصفورة قديما -رحمة الله عليهم جميعا-.
حصل شيخنا ريان -رحمه الله- على الشهادة الثانوية الأزهرية عام 1961م من معهد قنا الأزهري، ثم التحق بكلية الشريعة والقانون، وحصل على درجة الإجازة العليا بتقدير جيد جدا، وكان مثالا للطالب المجد المكافح أثناء دراسته، فهو يعمل بالليل في أحد مصانع البلاستيك، ويدرس بالنهار في الجامعة، فمسؤوليته كبيرة، فهو متزوج وقتها، ويَعُول، فقد زَوَّجه والده من ابنة خاله الحاجة آمنة أم محمد، وهو بالمرحلة الثانوية، وكان مسؤولا أيضا عن أشقائه الصغار، والذين وفدوا للقاهرة أيضا للدراسة.
بعد تخرجه في الجامعة، عمل بعض سنوات مديرا للمخابز بالقاهرة، وتم تجنيده بالقوات المسلحة المصرية عام 1968م، وتقدم بعد ذلك للعمل معيدا بكلية الشريعة والقانون، وضحى براتبه الكبير بالمخابز، وقَبِل بالراتب الأقل بالجامعة رغبة في العلم والتعلم، حصل على الماجستير، ثم الدكتوراه عام 1973م في الفقه المقارن، وكان موضوع رسالته في باب المعاملات عن عقد الوكالة، ومشرفه وأستاذه وقتها كان العالم الجليل والفقيه المتضلع الشيخ الإمام: “أنيس عبادة”، وأحد مُناقِشيه العلامة الشيخ السايس -رحمة الله عليهما-، وقدمه شيخه أنيس عبادة وقتها بقوله لأعضاء لجنة المناقشة: أقدم لكم تلميذي الفقيه الورع العالم العابد أحمد ريان، والذي علمتُه القليل وتعلمتُ منه الكثير.
وحصل -رحمه الله- على درجة الدكتوراه بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، وعُين بعدها مدرسا، ثم أستاذا بالكلية، وأعير سنة 1976م إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، واستمر لأربع سنوات.
كما أعير عام 1985م إلى جامعة أم القرى بمكة المكرمة، واستمر لخمس سنوات، وزار كثيرا من بلدان العالم في آسيا وأوروبا والأمريكتين في رحلات علمية، ودعوية للتدريس والإشراف، والمناقشة للرسائل العلمية.
وترك -رحمه الله- تراثا علميا ضخما، فله العديد من المؤلفات في علوم الشريعة من الفقه المذهبي، والفقه المقارن، وتفسير آيات الأحكام، والحديث الشريف والفتاوى.
له العديد من المؤلفات في علوم الشريعة من الفقه المذهبي، والفقه المقارن، وتفسير آيات الأحكام، والحديث الشريف والفتاوى.
تميز -رحمه الله- بالزهد الشديد في المناصب، والبعد عن الشهرة وتقليل الظهور الإعلامي، وأتذكر وقت أن عُرِض عليه منصب عمادة كلية الشريعة بأسيوط عام 1982م – وكنت وقتها طالبا في السنة النهائية بالجامعة – فاعتذر الشيخ وقتها بشدة حتى أتى إليه وزاره في بيته المتواضع بالمطرية رئيس الجامعة وقتها، وهو فضيلة الدكتور: محمد الطيب النجار -رحمه الله-، وكنت وقتها ضيفا لدى فضيلته، فترجاه رئيس الجامعة في قبول منصب العمادة، فوافق الشيخ أحمد ريان؛ تطييبا لخاطر الدكتور الطيب النجار، بشرط ألا تزيد مدة عمادته للكلية عن عام واحد، وقد كان، ولم يتول عمادة أي كلية بمصر بعد ذلك، وإن كان عمل عميدا بعض الوقت لكلية الشريعة بجامعة الأحقاف باليمن، ووكيلا لكلية الإمام مالك للشريعة بدبي، وعُرض عليه منصب المفتي بمصر قبل تولية الشيخ محمد السيد طنطاوي -رحمه الله- للمنصب عام 1984م، فاعتذر بشدة، ورفض قبول المنصب، وذكر لي فضيلته في جلسة خاصة بأنه: لا يأمن على نفسه من الفتن والضغوط، ومن الأشرار إن لم يوافقهم، على ما يريدونه الإفتاء به.
كان رجلا واسع العطاء شديد الكرم، بيته مفتوح بالليل والنهار لطلاب العلم، والزوار الأقارب، والأباعد من الصعيد، وغيره من الأقاليم، وحتى البلدان الإسلامية، وقد هيأ في بيته بالطابق السفلي مضيفة في مكتبته الكبيرة لإقامة ونوم الضيوف، وطلاب العلم، وكان يقدم الطعام بنفسه، وكم رأيته -رحمه الله-، وهو يحمل طبلية محملة بالطعام فوق رأسه، وينزل بها ليقدمها لضيوفه وطلابه، وأذكر من كرمه وسخائه وسماحته كذلك أنه عندما بنى بيته على قطعة الأرض التي اشتراها بعد عودته من الإعارة الأولى عام 1982م، أتى بأشقائه وبعض أقاربه وزملائه العلماء، وأسكنهم الشقق دون مقابل، بل قال لهم: إن استطعتم دفع الإيجار فبها ونعمت، وإلا فليعف الله عنا وعنكم.
نذكر شخصيتين لهما أثر كبير في حياة الشيخ كما سمعته قديما وهو: والده الكريم، الذي شرفت برؤيته والجلوس معه، وزيارته في بيته بقريتنا بالصعيد، وهو الشيخ على طه ريان، وكان من العباد الزاهدين المحافظين على فروض الإسلام، والصلوات الخمس في جماعة، ورفع الآذان بمسجد القرية، وكان يمتاز بنداوة صوته وقوته، حتى كان الناس يسمعونه في القرى المجاورة من شرق نهر النيل، ومن أماكن بعيدة قبل أن يعرف الناس مكبرات الصوت، والميكرفون، وقد عمّر والده -رحمه الله- طويلا، وعاش بصحة جيدة حتى آخر حياته، وقد تجاوز المائة عام من عمره.
وأما الشخصية الثانية التي تأثر بها فضيلة الشيخ أحمد ريان، وأخذ منها علوم التصوف والسلوك والتربية، فهو العالم الرباني الشيخ محمد الطيب شيخ الطريقة الخلوتية بصعيد مصر، ومنطقة الأقصر والقُرْنة، وهو والد فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الدكتور أحمد الطيب.
من أقواله: “إن الرئيس مرسي جاء في غير زمنه، ولم يعرف كثير من الشعب قيمته وقدره”
والحديث عن شيخنا المفضال فضيلة الدكتور أحمد ريان ومواقفه وأثره في طلابه ومحبيه يطول، ولا يفوتني أن أذكر مقولته عن الرئيس الشهيد محمد مرسي -رحمه الله-، والذي وصفه بحسن الخلق، وأثنى على سلوكه في تقديره للعلم والعلماء، عندما رأى ذلك بعينه وقت أن حضر السيد الرئيس رحمه الله بداية الجلسات لهيئة كبار العلماء، وقال لي فضيلة الدكتور ريان بالنص: “إن الرئيس مرسي جاء في غير زمنه، ولم يعرف كثير من الشعب قيمته وقدره”.
رحم الله الجميع، وأكتفي بهذا القدر وأسأل الله -عز وجل- أن يرحمه برحمته الواسعة، ويسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، وأن يرحمنا ربنا إذا صرنا إلى ما صار إليه، وأن يجزيه خير الجزاء على ما قدم لدينه وأمته، ويُعوض الأمة الإسلامية والأزهر الشريف في فقده خيرا.
* عضو مؤسس للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ومستشار شرعي للجالية الإسلامية بألمانيا. والمقال منقول عن “مدونات الجزيرة”.