كانت الغنائم التي حصل عليها السلاجقة في معركة دَنَدانقان كثيرة جدّاً، وبعد انتصارهم في تلك المعركة عاد طغرل بك إلى نيسابور فدخلها مع جموع في أواخر عام (431 هـ) وأوائل (432 هـ) ، ولم تنج المدينة هذه المرة من النهب، فلما أحرز السلاجقة النصر في هذه المعارك ازدادوا قوةً، ولحقت بهم جيوشهم المتفرقة في أطراف خراسان، فاشتد وقعهم في القلوب، وتقرر الملك لهم، واجتمع بعد ذلكَ الأخوان جفري بك، وطغرل بك مع عمهما موسى ابن سلجوق الذي كان يطلق عليه (بيغو) ، وأبناء أعمامهم وكبار قومهم وقواد جنودهم، وتعاهدوا على الاتحاد والتعاون فيما بينهم .
أ ـ تنظيم إدارة الدولة في عهدها الأول:
من أجل تنظيم إدارة الدولة قسمها السلاجقة إلى أقاليم، وعينوا على كل إقليم منها حاكماً من أفراد البيت السلجوقي، أطلقوا عليهِ لقب (شاه) ، و(ملك) ، وأما الرئيس الأعلى للدولة بأجمعها، فأطلق عليهِ لقب (سلطان) ، وكانت لهُ الكلمة النافذة في جميع أنحاء الدولة، وبهذا التنظيم وطد طغرل بك سلطته في تلك البلاد، وضمن الوحدة بين أفراد أسرته، لقد كان إخوة طغرل بك وأبناؤهم يتولون الحكم في أطراف البلاد تحت سلطته ، ومذهبهم السياسي في الحكم أنهم كانوا يعدون المناطق المفتوحة ملكاً لأفراد الأسرة المالكة، ولم يعمل طغرل بك على إقامة حكم فردي ينحصر في شخصه، بل أوكل حكم المناطق التي تدخل في حوزة السلاجقة حديثاً إلى المقربيـــــــــن من آل سلجوق ، وترك لهم سلطة الحكم كاملة، هدفه من ذلك الإبقاء على الترابط والوحدة بين طغرل بك، وإخوته، وأبنائهم.
وهكذا يتضح بشكل جلي الطبيعة القبلية في سلوك السلاجقة وحبهم للرئاسة والجاه، وقد حاول طغرل بك زعيمهم إرضاء هذه النزعة فعينهم حكاماً وقادةً وملوكاً، لكل منهم جيشه الخاص، ووزيره، وحجابه، ومعاونوه في الحكم والإدارة، كما حرص السلاجقة على تكريم علماء الدين، وشيوخ الصوفية كي يثنوا عليهم ويزداد حكمهم قوة ، ومع ذلك فإن تقسيم الدولة إلى ولايات شبه مستقلة أصبح شرّاً في عهد ضعف السلاجقة، وكثرة المنازعات في أرجاء الدولة، مما ساعد على تمزقها، وسرعة انهيارها وزوالها .
ب ـ اعتراف الخليفة العباسي بالسلاجقة:
بعد أن وطّد طغرل بك أركان دولته، وأرسى قواعدها لم يبق سوى الحصول على اعتراف من الخليفة به؛ ليُـكِسب سلطته الصفة الشرعية في أعين المسلمين، لذلك أنفذ في عام (432 هـ) رسالة إلى الخليفة العباسي القائم بأمر الله؛ حملها إليهِ أبو إسحاق القفاعي ، تضمنت ولاء السلاجقة لهُ، وتأكيد تمسكهم بالدين الإسلامي، والتزامهم بالجهاد في سبيل الله، وحبهم للعدل، والتماسهم الحصول على اعتراف الخليفة بقيام دولتهم .
وكان السلاجقة في أشد الحاجة للدعم المعنوي من الخليفة العباسي صاحب النفوذ الروحي على العالم الإسلامي السني، وكانت نوعية هذه العلاقة بين السلاطين، والخلفاء من ثقافة ذلكَ العصر الذي ضعفت فيهِ مؤسسة الخلافة وتقلص نفوذها وسلطانها وصلاحياتها، وهي ظاهرة مرضية في الأمة.
وقد جاء في هذه الرسالة ما نصه: «نحنُ معشر آل سلجوق أحطنا دائماً الحضرة النبوية المقدسة، وأحببناها من صميم قلوبنا ، ولقد اجتهدنا دائماً في غزو الكفار ، وإعلان الجهاد، وداومنا على زيارة الكعبة المقدسة، وكان لنا عَمٌّ مقدم محترم بيننا اسمه إسرائيل بن سلجوق، فقبض عليه يمين الدولة محمود بن سبكتكين بغير جرم، أو جناية وأرسله إلى قلعة كالنجرد ببلاد الهند، فقضى في أسره سبع سنوات حتى مات، واحتجز كذلكَ في القلاع الأخرى الكثير من أهلنا وأقاربنا، فلما مات محمود وجلسَ في مكانه ابنه مسعود لم يقم على مصالح الرعية، واشتغل باللهو والطرب، فلا جرم إذ طلب منا أعيان خراسان، ومشاهيرها أن نقوم على حمايتهم، ولكن مسعود وجه إلينا جيشهُ فوقعت بيننا وبينهُ معارك تناوبناها بين كر وفر، وهزيمةٍ وظفر، حتى ابتسمَ لنا الحظ الحسن، فانحاز إلينا آخر مدد لمسعود ومعهُ جيش جرار، وظفرنا بالغلبةِ بمعونةِ اللهِ عزَّ وجل، بفضل إقبالنا على الحضرة المقدسة المطهرة، وانكسر مسعود وأصبح ذليلاً وانكفأ علَمه، وولى الأدبار تاركاً لنا الدولة والإقبال، وشكراً للهِ على ما أفاء به علينا من فتح ونصر، فنشرنا عدلنا وإنصافنا على العباد وابتعدنا عن طريق الظلم، والجور، والفساد، ونحنُ نرجو أن نكون في هذا قد نهجنا وفقاً لتعاليم الدين وولي الأمر أمير المؤمنين» .
وما إن وصلت هذه الرسالة إلى الخليفة العباسي القائم بأمر الله حتى سُرَّ بها غاية السرور، وأظهر رغبتهُ في التقرب إليهم، وبادر بإيفاد رسول إلى السلطان طغرل بك الذي كان في مدينة الري سنة (435 هـ) ، وكان ذلكَ الرسولُ هو أبو الحسن علي بن محمد الماوردي، وقد تضمنت الرسالة رغبة الخليفة العباسي في عقد صلح بينه وبين الأمير البويهي أبي كاليجار ، وتقبيح ما فعل أصحابهُ من فساد في معاملة الرعية، كما أمر الخليفة رسوله أن يتقرب على طغرل بك ويدعوه للحضور إلى دار الخلافة في بغداد ، فضلاً عن الرسالة فقد كان الماوردي يحمل معهُ إلى طغرل بك الخلع السلطانية التي منحها إياه الخليفة، مع كتاب تفويض بحكم البلاد ، وعاد الماوردي إلى بغداد سنة (436 هـ) بعد أن مكث مدة عام في جرجان ، فأخبر الخليفة عن طاعة طغرل بك له، وتعظيمه لأوامره، والتزامه بها ، كما أرسل طغرل بك إلى الخليفة مع المارودي عشرين ألف دينار ، لقد كان لاعتراف الخليفة العباسي بقيام دولة السلاجقة أثر كبير في تقرب السلاجقة من الخلافة العباسية، فأخذت العلاقات بين طغرل بك، والخليفة العباسي القائم بأمر الله تتوطَّد على مَرِّ الأيام، كما كان لهذا الاعتراف أثر في اكتمال الكيان الشرعي لدولة السلاجقة أمام المسلمين الخاضعين لسلطتهم في المشرق .
ج ـ اتساع رقعة الدولة:
بعد أن شعر طغرل بك أول سلاطين السلاجقة بالاطمئنان على دولته إثر اعتراف الخليفة العباسي القائم بأمر الله بها، توجه أمراء السلاجقة كل إلى المنطقة المخصصة له، وشرع بتنفيذ ما تبقى من خطته الرامية إلى إتمام سيطرة السلاجقة على بلاد فارس، ومن ثم التوجه منها للسيطرة على العراق، ففي عام (433 هـ) ، تحرك طغرل بك على رأس جيش كبير من أجل تحقيق ذلكَ الهدف، وكان الديالمة يسيطرون انذاك على معظم أجزاء بلاد فارس والعراق، ولكنهم مع ذلكَ كانوا في نزاع مستمر مما أضعفهم وسهل على السلطان السلجوقي طغرل بك التغلب عليهم وإنهاء حكمهم، فقد كان النصر حليفه في كافة حروبه معهم والتي انتهت بسيطرته على بلاد فارس والعراق؛ حيث دخل حاضرة الخلافة العباسية بغداد .
فقد بدأ طغرل بك بالهجوم أولاً على جرجان، وطبرستان من أجل القضاء على حكم أنوشروان الزياري الديلمي الذي كان يسيطر على هذين الإقليمين، وإدراكاً من هذا الأخير لقوة السلاجقة، وإنه لا طاقة له بقتال طغرل بك، قرر أن يخضع لهُ، وأعلن تعهده بطاعته، وأداء إتاوة سنوية له، وبذلكَ ضم طغرل بك هذين الإقليمين إلى دولة السلاجقة، ثم لم يلبث أن أزال حكم الزياريين الديالمة منها، وعين عليها والياً من قبله فكان هذا إيذاناً بسقوط الدولة الزيارية، وانتهاء نفوذها في بلاد فارس .
وبعد ذلكَ توجه طغرل بك إلى خوارزم لفتحها، كان ذلكَ عام (434 هـ) ، وما أن تم له ذلكَ حتى سيطر على ما يجاورها من المناطق، فأصبح السلاجقة أكبر قوة في بلاد فارس وما وراء النهر، وكان هذا سبباً في مسارعة حكام الأقاليم إلى إعلان طاعتهم وولائهم لهم، وموافقتهم على دفع إتاوة سنوية؛ كل هذا أتاح الفرصة لطغرل بك للتوجه إلى وسط بلاد فارس وغزو مدينة الري ، فسار على رأس جيش كبير نحوها في العام نفسه فدخلها فاتحاً، وجعلها عاصمة لهُ ومقراً لحكومته .
وكان لهذه الانتصارات التي حققها السلاجقة بزعامة السلطان طغرل بك في بلاد فارس، وفي ما وراء النهر انعكاساتها على الخليفة العباسي القائم بأمر الله في بغداد، فما كان منه ألاّ أن بعث رسولاً من قبله إلى مدينة الري يحمل رسالة منه للسلطان السلجوقي يدعوه فيها لزيارة بغداد ، لقد أبلغ مبعوث الخليفة السلطان السلجوقي بأن الخليفة قد سُرَّ برسالة السلاجقة إليهِ كثيراً، وردَّ عليها برد حسن تضمن موافقته على قيام دولة السلاجقة، وأن الخليفة يسره أن يستقبل سلطان السلاجقة في بغداد عاصمة الخلافة كضيف عزيز كريم ، استقبل السلطان طغرل بك مبعوث الخليفة العباسي أحسن استقبال، ورحب بدعوتهِ إياه لزيارة بغداد، ووعد بالقيام بها في الوقت المناسب ، ومن جهة أخرى فقد بقي مبعوث الخلافة في الري مدة ثلاث سنوات من أجل مرافقة طغرل بك عند توجهه لزيارة بغداد، ولكنه اضطر إلى الرجوع وحده إلى بغداد، بعد أن أكَّد له طغرل بك حرصه على هذه الزيارة وإنه سيلبيها بعد فراغه من غزو الأقاليم الغربية، والجنوبية من بلاد فارس.
بعد ذلكَ توجه طغرل بك بجيشه لتفقد المناطق الشمالية الغربية من بلاد فارس وتوطيد سيطرة السلاجقة عليها، فسار في عام (446 هـ) إلى إقليم أذربيجان، ودخل عاصمته تبريز، وشمل نفوذه جميع أجزاء أذربيجان، فضلاً عن بعض أجزاء من بلاد الروم (اسية الصغرى) ، المتاخمة لأذربيجان، بعدها عاد إلى عاصمته الري عام (447 هـ) ، وهكذا شمل نفوذ السلاجقة أكثر أجزاء فارس، فضلاً عن أجزاء الدول المجاورة لها، وبهذا أصبح طغرل بك مستعدّاً لدخول عاصمة بغداد بناءً على استدعاء الخليفة، وبعد ذلكَ تمت سيطرتهم على معظم أنحاء العراق.
وقد أرسل طغرل بك أخاه من أمه إبراهيم ينال إلى همدان، والأجزاء الغربية المجاورة لها من أجل تثبيت نفوذ السلاجقة فيها، فتوجه إليها عام (437 هـ) ، فرحل من كرمان إليها، وهناك حدثته نفسه بالتمرد، واتخاذها قاعدة له مما أجبر طغرل بك على التوجه نحوه بنفسه، وذلكَ عام (441 هـ) ، وما أن اقترب منها حتى أرسل إلى أخيه يطلب منه أن يسلم القلاع التي في يدهِ إليه، غير أنه رفض ذلكَ فهاجمه طغرل بك وانتصر عليهِ ثم عفا عنه بعد أن استسلم لهُ، ولم يعاقبه على تمرده هذا .
د ـ التوسع نحو الأناضول:
في سنة (440 هـ) قام إبراهيم ينال بغزو الروم حيث ظفر بهم، وغنم غنائم كثيرة، وكان السبب في ذلكَ أن جموعاً كثيرة من الغزنويين فيما وراء النهر قد جاؤوا إليهِ يريدون الاستقرار في بلاده، ولكنه رفض ذلك، وحاول إفهامهم أن بلاده ومصادرها تعجز عن حاجتهم، ونصحهم بالتوجه إلى غزو الروم، والجهاد في سبيل الله فضلاً عن حصولهم على الغنائم، كما أخبرهم: أنه سيلحق بهم ويساعدهم، فاستجابوا له، وساروا أمامه فتبعهم ، فلما وصلوا إلى ملاذكرد، ورازن الروم قاليقلا، وطرابزون لقيهم جيش كبير من الروم والأبخاز، تذكر المصادر أن عدده ثمان وخمسون ألفاً فدار بينهم قتال شديد تبادل فيه الفريقان النصر والهزيمة، وكان النصر في النهاية للمسلمين قتلوا عدداً كبيراً من الروم، وأسروا العديد منهم بينهم كثير من البطارقة، وكان من بين الأسرى قاريط ملك الأبخاز الذي فدا نفسه بثلاثمئة ألف دينار، وبهدايا قُدر ثمنها بمئة ألف .
ولكن لم يقبل ذلكَ منه، ومع ذلكَ فقد استمر إبراهيم ينال يغزو تلك البلاد وينهبها، ولم يبق بينه وبين القسطنطينية سوى خمسة عشر يوماً، وكان من نتيجة هذه الغارات والغزوات أَنْ غنم المسلمون الكثير، وسبوا ما يزيد على مئة ألف رأس، فضلاً عما لا يُحصى من البغال، والدواب، والأموال؛ حتى قيل: إن الغنائم كانت قد حُملت على عشرة الاف عجلة، وأن من جملة الغنائم تسعة عشر ألف درع، وكان لهذه الغزوة آثار كبيرة، فقد ألحق السلطان طغرل بك بالروم خسائر كبيرة بما قام به من نهب، وقتل، وأسر، وبعد ذلكَ توجه للري، وأقام بها حتى حلول (447 هـ) وعاد بعدها إلى العراق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ علي محمد الصلابي، دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي، مؤسسة إقرا، القاهرة، 2006م، ص50-57
2ـ محمد بن إبراهيم بن خلكان، وفيات الأعيان، مراجعة وزارة المعارف العمومية، الطبعة الأخيرة، دار المأمون، مصر، 1936 م. (2/400).
3ـ محمد بن سليمان الرواندي، راحة الصدور وآية السرور في تاريخ الدولة السلجوقية، تحقيق إبراهيم أمين الشواربي، وعبد المنعم محمد حسنين، وفؤاد عبد المعطي الصياد، دار القلم، القاهرة، 1379 هـ. ص 168
4- ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، مطبعة دائرة المعارف، العثمانية، بحيدر اباد الدكن، الطبعة الأولى 1359 هـ. (8/10).
5- أبو الفضل محمد حسين، تاريخ البيهقي، تحقيق: يحيى الخشاب، وصادق نشأت، ط دار النهضة العربية، بيروت 1982 م. ص 695