أرأيتَ مسافرا يمشي في رحلة سفره بلا زاد يكفيه، ولا يعد العدة لذلك السفر قبل أن يسير؟ وماذا لو أهمل فلم يتزود أو نفد الزاد في بعض الطريق، أتراه يصل بسلام وينعم بالأمان؟ لا شك أن العاقل يستعد قبل أن يرحل، ويحتاط لسفره فيتزود ويأخذ بتعليمات السلامة وإشارات الطريق، بل ويزيد من زاده في محطات الوقود التي يمر بها في طريقه؛ حتى يتم الله له سفره على خير حال؛ فينعم بالإقامة الطيبة في طريقه وبعد رحلة الوصول.
ألا وإن الحياة الدنيا محطات متعاقبة يخلف بعضها بعضا، وكلنا مسافر في هذه الحياة، ولا بد لكل مسافر منا من زاد، وفي نهاية السفر يصل كل منا إلى مستقره وما يرجوه من الله.
بين الأمس واليوم
إن الأيام لو كانت تدوم ولا تنقضي لكانت أيام رمضان أولى بذلك الدوام لما فيها من بركات ونفحات، وخيرات وطاعات، لكن الله تعالى لم يكتب الخلود لأيٍّ من خلقه في هذه الحياة الدنيا. وقد مضت أيام شهر رمضان كلمح البصر، كالبرق الخاطف.. فإذا هو قد رحل عنا ومضى.. بالرغم من اجتهاد المحبين في إكرام أيامه بالصيام ولياليه بالقيام، وحُب ساعاته والتنافس في طاعاته، إلا أنه مضى في كل الأحوال وفات. ولقد كنا بالأمس القريب ننتظر هلاله ونسأل الله تعالى أن يبلغنا إياه، كنا نناصح بعضنا بعضا.. انتبه أيها المسلم.. فإن شهر رمضان قادم في الطريق إلينا. استعد يا محب.. فنحن الآن في استقبال شهرنا المبارك. أيها المشتاقون.. لقد أتى شهر رمضان وها هو يعيش بيننا ويدخل بيوتنا.. فلما أتى مكث فينا أياما معدودات حتى اكتمل هلاله، وما بعد المكث والتمام لم يكن إلا الرحيل والنقصان.. هكذا اقتضت سنة الله في خلقه، لم يكتب الخلود في دنيا الفناء للأيام والليالي والأوقات، فهي تأتي غضة طرية كلها بهاء وسناء، ثم لا تلبث إلا أن تفوت جميعا ويفوت معها ساعات ثمينة من عُمر الإنسان. تفوت بحلوها ومُرها، وتمضي مع جِد المجدين أو تقصير المقصرين، وتنتهي فلا تعود إلى يوم الدين.
على كل منا أن يعرف أن عمره هو رأس ماله وعليه استثماره والتزود فيه مسارعة إلى المغفرة واستباقا للخيرات
وحتى لا يبتئس المسلم مع فوات الساعات ورحيل الأيام وانقضاء الشهور والسنوات من عمره النفيس فقد وعد الله تعالى كل المؤمنين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الكهف: 30). لذا فإن على كل منا أن يعرف أن عمره هو رأس ماله وعليه استثماره والتزود فيه مسارعة إلى المغفرة، واستباقا للخيرات، وطلبا لمزيد من الأجر، وسعيا للفوز، وتجنبا للخسارة.؛ فهو مسافر إلى الله ولا بد له في طريقه من زاد.
خير الزاد:
لقد كان رمضان شهر المؤمنين العاملين، شهر التزود لبقية شهور العام. شهر شرعه الله لنا لعلنا نتقي، وقد ظهر فيه حرص المسلم على حسن التزود بما يقوِّي إيمانه ويشحذ همته طوال هذه الشهور، ففيه أعظم زاد لكل سفر، وإن الله لن يضيع على العامل أجر ما عمل، حيث ينعم العاملون بالقبول ويقال لهم: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} (سورة ق: 34). فقد انتهت رحلة سفرهم ووصلوا إلى دارهم آمنين خالدين مخلدين فيها بعد أن تزودوا في طريقهم إليها؛ وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم حالهم فيها فقال: “من يدخلُ الجنةَ يحيى فيها لا يموتُ، وينعَم فيها لا يبأَسُ، لا تَبلى ثيابُه، ولا يَفنى شبابُه” (صحيح الترغيب). وإن هذا النعيم السرمدي الدائم هو المكافأة الربانية لمن اتقى الله عز وجل، كما قال سبحانه: ” تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا” (مريم: 63). إنها لمن تزود من رمضان لكل حال في حياته الدنيا، فاتقى الله في سره وعلانيته، وفي قوله وفعله، وفي خلقه ومعاملته، وفي أمره كله. ولقد عاش المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها تلك الساعات المباركات مع خير الشهور، الذي كان مدرسة إيمانية ودورة تربوية عالية المستوى، ومحلا للتزود للدار الآخرة، حيث تدربنا على الصبر والإرادة والعزيمة وحسن الخلق، من السماحة والعفو والجود والكرم والحلم، والإيثار والتعاون وغير ذلك من أخلاق الإسلام التي حض عليها ورغب فيها.
لذا فإن علينا بعد أن صمنا وقمنا وأطعنا؛ أن تظهر التقوى فينا بعد رمضان، فتزين أقوالنا وأفعالنا وأخلاقنا ومعاملاتنا وتظهر في كل ذلك. أن نديم الصلة بيننا وبين الله عز وجل بحسن التعبد له وإخلاص العمل لوجهه، وذكره وشكره؛ فلا يمر علينا يوم دون أن يرفع لنا أعمال صالحات تثقل موازيننا وتقربنا من الغاية التي لها نعمل.. وهي أن نرضي الله تعالى حتى يدخلنا جنته. وقد قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: 102). فهذا أمر لعباده المؤمنين أن يتقوه حق تقواه، وأن يستمروا على ذلك ويثبتوا عليه ويستقيموا إلى الممات. (انظر تفسير السعدي). وقال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ} (التغابن: 16).
زاد لكل سفر:
وفي مدرسة رمضان تعلمنا دروسا كثيرة نافعة في الحال والحاضر والمستقبل، وقدمنا من العمل ما يرفعنا، وأخذنا من الزاد لقادم أيامنا ما ينفعنا. ومن هذا الزاد أننا:
– تعلمنا في رمضان: أن المسلم يحب الله تعالى حبا كبيرا. حُبا أسهر من أجله ليله وأظمأ نهاره وجاد بماله وحفظ لسانه. حبا برّ به والديه ووصل أرحامه وعفا وسامح.. هذا الحب امتدحه الله فقال: “والذين آمنوا أشد حبا لله”.
-
علينا بعد أن صمنا وقمنا وأطعنا أن تظهر التقوى فينا بعد رمضان فتزين أقوالنا وأفعالنا وأخلاقنا ومعاملاتنا
– تعلمنا في رمضان: إصلاح النية وعرفنا أثرها في صلاح وقبول العمل، وأن نية المسلم في كل أعماله إرادة حرث الآخرة، وحين يصلح نيته يصلح عمله، وسوف تأتيه الدنيا بعد ذلك وهي راغمة.
– تعلمنا في رمضان: المحافظة على فرائض الله، وتنوع العبادات، والإكثار من النوافل. وأن نكون على صلة بالقرآن الكريم تلاوة وتدبرا وعملا. وأن ونحافظ على الأذكار ونكثر من ذكر الله عز وجل والاستغفار.
– تعلمنا في رمضان: أن دين الإسلام رحمة ويُسر، فأفطرَ المريض دون حرج، وتعود الناشئة على الصيام دون أن نجبرهم أو نشق عليهم.
– تعلمنا في رمضان: أن المؤمنين إخوة وإن لم يتلاقوا، فكان الدعاء لهم بظهر الغيب، وكان إطعام الطعام، والإحسان إلى الفقراء والأيتام، وإدخال السرور عليهم.
– تعلمنا في رمضان: أننا يمكننا أن نقوم الليل كل يوم ولو بركعتين أو أكثر بعد صلاة العشاء، وأن نسأل الله في أمورنا كلها وندعوه لأنه قريب منا.
-
تعلمنا في رمضان أن دين الإسلام رحمة ويُسر فأفطرَ المريض دون حرج وتعود الناشئة على الصيام دون مشقة
– تعلمنا في رمضان: أن نتعاون في بيوتنا، وأن يشجع بعضنا بعضا على طاعة الله والثبات عليها، وألا نضيع أوقاتنا بالإسراف في استخدام وسائل التواصل الاجتماعية بكافة أنواعها.
– تعلمنا في رمضان: أن نقتصد في إعداد الطعام، وألا نسرف في الأكل، وأن يكون للناس نصيب مما أعطانا الله من نِعم.
– تعلمنا في رمضان: تنظيم الوقت والحفاظ عليه ورعاية الأولاد وإدخال البهجة والسرور عليهم.
– تعلمنا في رمضان: أن نحفظ ألسنتنا إلا عن خير، فلا غيبة ولا نميمة ولا سباب ولا فحش ولا بذاءة، وأن نقول للناس حسنا وأن الكلمة الطيبة صدقة.
– تعلمنا في رمضان: اغتنام مواسم الخير بالازدياد من العبادات فيها والتماس أوقات الفضل وعدم التفريط فيها.
– تعلمنا في رمضان: أن المال يزكو بالنفقة والعطاء، وأن الصدقة بركة ونماء، وأن المسلم يتداعَى من أجل أخيه، فيطعم الجائع ويكسو العاري ويحسن إلى الأرملة وذي الحاجة.
– تعلمنا في رمضان: أن نطلب العلم.. علم العبادة التي نقوم بها حتى تكون صحيحة كما يريدها الله عز وجل. وأن نشارك في تعليم غيرنا ما تعلمناه.
-
تعلمنا في رمضان أن الفرح الحقيقي يحصل بتمام الطاعة وأنه يمتد ليلازم العبد في الآخرة حين يُبشر بالقبول
– تعلمنا في رمضان: أن نحاسب أنفسنا قبل العمل فنصحح النية ونتبع فيه شرع الله، وأثناء العمل فنتقنه ونؤديه على أحسن وجه، وبعد العمل حيث لا نغتر به بل نسأل الله القبول.
– تعلمنا في رمضان: أن الفرح الحقيقي يحصل بتمام الطاعة، وأن هذا الفرح يمتد ليلازم العبد في الآخرة حين يُبشر بالقبول والفوز المبين.
وتعلمنا في رمضان الكثير، فاللهم لك الحمد والشكر.
ألا وإن كل ما تعلمناه في رمضان هو زاد لكل مسافر منا على طول الطريق في رحلة حياته كلها؛ حتى يشعر بالسكينة والاطمئنان، وينعم بقلب سليم يثبت به على منهج الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيفوز بجنات الخلود.