بعد أن تناولنا في الحلقتين الماضيتين النشأة الأولى للدكتور محمد عمارة –رحمه الله تعالى- وتحدثنا عن مسيرته التعليمية وشيوخه الذي تتلمذ لهم والذين أثروا فيه حتى أضحى قلعة فكرية متكاملة البينان، عظيمة المعاني، مهيبة المنظر.. ثم تناولنا معالم المشروع الفكري له رحمه الله تعالى؛ حيث ذكرنا لهذا المشروع 5 معالم واضحة ومميزة، نتناول في هذه الحلقة:
المعالم العشرة لتميز المشروع الفكري لعمارة
انعقدت للدكتور محمد عمارة ميزاتٌ عظيمة ربما من النادر أن تجتمع في عالم أو مفكر خلعت على مجمل مشروعه ما يمكن تسميته بـ “التميز” و”الفرادة” و”التأثير”، وذلك في عصره على الأقل، بما جعله قلعة من قلاع الفكر الإسلامي الحارسة لتعاليم الإسلام والمرابِطة على ثغوره في عصره على حد وصف شيخنا الإمام يوسف القرضاوي الذي كتب عنه كتابا سماه: “الدكتور محمد عمارة، الحارس اليقظ المرابط على ثغور الإسلام”، وكما أسماه الشيخ المفكر العظيم محمد الغزالي في إهدائه كتاب: “نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم”، كتب فيه: “إلى أخي الحبيب د. محمد عمارة داعية الإسلام وحارس تعاليمه، مع الدعاء”.
وهذه الميزات تمثل جمعه بين أمور كثيرة ومن زوايا متعددة، وثقافات متنوعة، وهذا الجمع قد يكون بين أشياء متكاملة، أو متنوعة، أو متناقضة ومتعارضة في بعض الأحيان؛ حيث إن جمع المفكر بين أكثر من ثقافة – في تقديري – هو الذي يعطي لفكره قوة وإبداعا، ويمده بالتجديد ويمنحه القدرة على الاجتهاد، ويوفر له عمق المدارك، ويهيئ له سعة الأفق، وهذا لا يتوفر فيمن عكف على مجال واحد أو تخصص واحد أو ثقافة واحدة.
وفي السطور الآتية نرصد هذه الأمور التي جمعها د. عمارة، وانعكست على مشروعه على النحو الآتي:
أولا: الجمع بين دراسة الفكر الإسلامي ودراسة الفكر الغربي:
في دراسته واهتمامه جمع عمارة بين دراسة الفكر الإسلامي ودراسة الفكر الغربي؛ حيث درس الفكر الإسلامي من خلال تخصصه في الفلسفة الإسلامية والفرق الإسلامية والتيارات الإسلامية، وكذلك من دراسته في الأزهر، كما اهتم بالفكر الغربي بحكم اشتغاله بالفكر عموما، وطالع مشروعاتهم ومخططاتهم بحكم اهتمامه بالإسلام والتحديات التي تواجهه من الغرب والشرق، وأصدر في ذلك عددا من الكتب تدل بعنواناتها فقط على هذا الجمع والمقارنة، منها: الخطاب الديني بين التجديد الإسلامي والتبديد الأمريكانى، مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية، في فقه المواجهة بين الغرب والإسلام، الغارة الجديدة على الإسلام، العلمانية بين الغرب والإسلام، مأزق المسيحية والعلمانية في أوروبا، تحرير المرأة بين الغرب والإسلام، الإسلام والغرب افتراءات لها تاريخ، الحضارات العالمية تدافع أم صراع، الإسلام في عيون غربية بين افتراءات الجهلاء وإنصاف العلماء.
وهذا الجمع بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي منح عمارة تمايزا وتميزا في طرحه، واستطاع من خلاله أن يبين ميزات وامتيازات الفكر الإسلامي على الفكر الغربي، بل يجلب من آراء وشهادات الغربيين ما يعد انتصارا للإسلام، ومن ذلك مثلا أنه جمع في كتابه: “الإسلام في عيون غربية ” اثنتين وثلاثين شهادة لغربيين غير مسلمين ينصفون فيها الإسلام، وقد قال أبو الطيب المتنبي:
ونَــذيمُهُم وبِهِــم عَرفْنــا فَضْلَــهُ ** وبِضِدِّهـــا تَتَبَيَّـــنُ الأشْـــياءُ
وقال دوقلة المنبجي من قصيدته: “اليتيمة”:
ضِدانِ لما اسـتُجْمِعا حَسُنا ** والضِّدُّ يُظهِرُ حُسْــنَهُ الضِّدُّ
وقد ظهر ذلك الحسنُ جليًّا في القضايا والأفكار التي قارن فيها بين رؤية الفكر الإسلامي ورؤية الفكر الغربي، ففي المرأة مثلا يبين كيف تناول الفكر الغربي المرأة وعرضها على أنها سلعة وشيء، في حين أن الإسلام يرى المرأة إنسانا مكرما مشرفا له حياؤه وخصوصيته، ولا يمنعه من ممارسة الحياة العامة ونفع البشرية وفق الضوابط الشرعية التي تحفظه وتصونه بما يحقق الالتزام ويجمع إليه الفعل الحضاري الراشد للأمة .. وهكذا في كل القضايا التي يتناولها تُظهر المقارنةُ فيها حسنَ الإسلام وامتيازَه وتميزه على الفكر الغربي.
ثانيا: الجمع بين علوم النقل وعلوم العقل:
ومن معالم تميز المشروع الفكري للعلامة د. عمارة أنه جمع بين معرفة علوم النقل، ومعرفة علوم العقل، وقد توفر له ذلك من دراسته للعلوم الشرعية في الأزهر ودار العلوم فحاز علوم النقل، ومن تخصصه في الفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي بدراسة الفرق الإسلامية فحاز علوم العقل.
ولقد كتب د. عمارة عن علوم القرآن وعلوم السنة، وعلوم الفقه والاجتهاد بما مثل رؤية له في النظر إلى هذه العلوم تستحق الفحص والدراسة، كما أن الشبهات التي أوردها وقدم ردودا شافية عليها يتجلى فيها العلم بالنقل وفهمه وفق رؤية “عقلانية مؤمنة” كما كان يسميها، ووفق منهجية “وسطية جامعة” كما كان يصفها.
كذلك كتب في الفرق الإسلامية وحاز رسالتيه للماجستير والدكتوراه عن المعتزلة وفكرها ورؤيتها في الحرية والسياسة والخلافة؛ فضلا عن تشبعه في قسم الفلسفة بدار العلوم من علوم العقل، وهو الذي كتب كتاب: “مقام العقل في الإسلام”، وتحدث عن “العقلانية المؤمنة”، و”الوسطية الجامعة” كما سبقت الإشارة، وقرأ الشرع بالعقل وحكم العقل بالشرع، في مجمل ما كتب، وقد تختلف معه في بعض القراءات والاجتهادات لكنك لا تنكر جسارته وجرأته في نقاش القضايا وممارسة الاجتهاد، وكيف كان سيفا مسلطا على التيارات المعادية للإسلام والذب عن حماه.
وقد تجلت آثار هذا العلم العقلي “الراشد” عنده في تمكنه من تقديم قراءة راشدة للنقل، مرتبطة بالأصل وموصولة بالعصر وملبية لحاجات الواقع وهموم الأمة وقضايا الإسلام، واستطاع أن يدحض القراءات المختلفة للإسلام: ماركسيةً وعلمانية وشيوعية ورأسمالية، وغربية، وأن يضعها تحت مجهر الإسلام والعقلنة المؤمنة، ويفندها تفنيدا تاما لا يرفع عنها المجهر إلا بعد أن يتركها كأنها أعجاز نخل خاوية.
ثالثا: الجمع بين دراسة الإسلام ودراسة الأديان الأخرى:
من المعالم التي ميزت المشروع الفكري للدكتور عمارة أنه جمع إلى المعرفة بالإسلام وعلومه أصولا وفروعا، منقولا ومعقولا، ممارسا للاجتهاد غير مخلد للتقليد ولا التعصب لأحد .. جمع إلى ذلك الاطلاع الواسع على “الأديان” الأخرى، ومقارنة كثير من القضايا التي يتناولها بين رؤية الإسلام لها ورؤية الأديان الأخرى، وبخاصة اليهودية والنصرانية.
وقد صنف د. عمارة عددا من الكتب تبرز هذا الجمع بين الثقافتين، ومن ذلك: علمانية المدفع والإنجيل، مأزق المسيحية والعلمانية في أوروبا، القدس بين اليهودية والإسلام.
وتظهر فوائد هذا الجمع حين يتناول قضايا فكرية وتشريعية؛ فهو حين يتحدث عن المرأة أو النفس البشرية أو قيمة الإنسان أو الزواج والطلاق أو الحرية في ظل عبودية الله، كل هذه القضايا وغيرها حين يتناولها يذكر رؤية الإسلام الفريدة والجامعة لها، والرؤى الأخرى في الأديان الأخرى.
وإذا تحدث عن “الإسلام والآخر” – كما هو أحد عنوانات كتبه – يبين عظمة الإسلام في قبوله بالتعايش مع الآخر وعيش الآخر في ظله، مع بيانه لضيق الأديان والمذاهب الأخرى ذرعًا بالآخر: رفضا وعنصرية وإبعادا، بل يصل الأمر إلى القتل والسحق والإقصاء.
وهكذا يجلي عمارة عظمة الإسلام حين يقارنه بالأديان والمذاهب والرسالات والقوانين الأخرى، وهو ما يمثل أحد ركائز الدعوة لدين الإسلام في الشرق والغرب، قديما وحديثا.
رابعا: الجمع بين الدراسة في الأزهر والدراسة في دار العلوم:
ومن المعالم التي ميزت مشروع عمارة الفكري، ومنحته أبعادا جديدة متجددة، وأعطته آفاقا أوسع في التعامل الواقعي والحيوي مع الواقع وقضايا الأمة أنه درَسَ في الأزهر الشريف بما يُدرَّس فيه من متون شرعية، وبين دراسة دار العلوم الأكثر حيوية وقدرة على تكوين الدارس فيها على الاجتهاد والتجديد والواقعية والفاعلية، وهذه ميزة يدركها كل من درس في المعهدين العريقين أو حتى درس في دار العلوم وحدها.
كما أن الدراسة في دار العلوم خاصةً تعطي العقل مزيدا من الانفتاح، وتجعله مشرفًا على ثقافات متنوعة: شرعية وتاريخية وفلسفية ولغوية ونحوية وبلاغية وأدبية ونقدية، يضاف لهذا أن د. عمارة كانت له اطلاعات واسعة على الأدب واللغة في وقت مبكر من حياته – كما ستأتي الإشارة – مما منحه ما يمنحه التمكنُ من اللغة وآدابها، وهو ما انعكس على القضايا التي يتناولها في الجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين المثالية والواقعية.
وقد أشار د. عمارة في بعض لقاءاته التليفزيونية – مع د. جاسم الموطوع – إلى مدى تأثره بدراسته في دار العلوم، وانعكاس هذه الدراسة على تفاعله مع الواقع وقدراته على الاجتهاد والتجديد، كما ظهر في كثير من عنوانات كتبه عن التجديد والاجتهاد، وكذلك مقالاته وأحاديثه الفضائية والإذاعية.
خامسا: الجمع بين دراسة المذاهب الكلامية القديمة والتيارات الفكرية المعاصرة:
استطاع د. عمارة أن يدرس المذاهب الكلامية القديمة بحكم دراسته في قسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم بالقاهرة، واطلاعه الواسع على الفلسفة القديمة والمشائية والفكر الإسلامي المعاصر، وتخصصه في الماجستير والدكتوراه في المعتزلة عن الحرية عندهم، والحكم والسياسة في فكرهم، وجمع مع هذا دراسة التيارات الفكرية والمذاهب المعاصرة، بل عاش معهم وانتمى لهم بعضا من الزمان، وقد ساعده على هذا الانتماء – كما يحكي هو – حبه للحرية وتعلقه بقضية العدالة الاجتماعية والمقاومة والثورة، ولم يكن انتماؤه لها عن عقيدة أو أيديولوجيا تخالف الإسلام، ثم حين تعمق في دراسة الإسلام وجد فيه هذا وأكثر بصورة أرقى وأعدل وأعمق وأشمل مما ترتب عليه تركه لهذه التيارات.
وقد كتب عمارة بعض كتبه تشير إلى هذا الجمع، وإلى وعيه الدقيق بمذاهبب الفكر المعاصر، ومن ذلك: العلمانية، سقوط الغلو العلماني، نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام، التفسير الماركسي للإسلام، مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية، وغير ذلك من كتب.
والميزة هنا أن وعيه بالفرق القديمة وتياراتها في الفكر الإسلامي وتراثه العقلي العظيم قد منحه القدرة على تخريج المذاهب والتيارات الفكرية المعاصرة عليها، ومعرفة مداخلها ومساربها ودهاليزها وشبهاتها وأفكارها ومنطلقاتها ومرتكزاتها؛ فضلا عن خبرته العميقة ومعرفته الدقيقة بالتيارات المعاصرة مثل الاشتراكية والماركسية والعلمانية من خلال دراسته لها وانتمائه لبعضها وقتا من الزمان، وهو الأمر الذي ساعده في هدم هذه الأفكار ودمغ مفكريها وكشف عوارهم والرد على شبهاتهم وأفكارهم بالحجة القاطعة والبراهين الساطعة التي كان يلجمهم بها إلجاما، وهذا ما جعل عمارة فارسا في المناظرة والحوار، وهو ما شهدته الساحة له وعرفته عنه في مسيرته الفكرية والدعوية والحضارية.
سادسا: الجمع بين دراسة التيارات الإسلامية ودراسة التيارات غير الإسلامية:
ومن المجالات التي جمع د. عمارة بينها: مجال دراسة التيارات الإسلامية المعاصرة بجماعاتها وتياراتها التي صرح في أكثر من مقام أنه أحبها وأحبته ونقدها ونقدته وقدم لها النصح فانتصحت أو لم تنتصح، وبين دراسة التيارات غير الإسلامية من ماركسية وشيوعية وعلمانية وإلحادية وغيرها.
كل هذه التيارات درسها د. عمارة وفحصها ووقف على مستنداتها وأدلتها ومواقفها وطبيعة مسلكها، فعن موقفه من الحركات الإسلامية وفي القلب منها الإخوان يقول: “الإخوان يثقون بي ويحبونني، وأنا أعتبر التنظيم كبرى الحركات الإسلامية، خاصة في ظل حالة التشرذم في الحركة والأحزاب، فليس لدينا رصيد في الشارع إلا الإخوان؛ فهم رصيد كبير لا ينبغي أن نفرط فيه، ويجب أن نسانده”.
وله كتب عن الصحوة الإسلامية، منها: “الصحوة الإسلامية في عيون غربية”، و”الصحوة الإسلامية والتحدي الحضاري”، و”الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية”، و”الحركات الإسلامية رؤية نقدية”.
وعن ممارسة النقد والتقويم للحركات الإسلامية الإخوان يقول: “سبق أن كتبت نقدًا للحركات ومنهم الإخوان؛ لأنهم ركزوا على السياسة بالمعنى الدارج، وأهملوا المشروع الإصلاحي، كما أهملوا الحديث عن الاحتلال الذي تعيشه الأمة والقواعد العسكرية التي تنتشر في كل بلاد الأمة، والأساطيل التي تنتشر في البحار والمحيطات .. أيضًا الإخوان أهملوا العدل الاجتماعي، رغم أنني حين كتبت عن حسن البنا وجدته يطالب بالإصلاح الزراعي قبل الحزب الشيوعي المصري، وكان لديه برنامج اجتماعي ثوري، وكذلك خاض الشيخ الغزالي معركته ضد الظلم الاجتماعي، وحتى سيد قطب كتب ضد الظلم الاجتماعي، ولكن كل هذا غاب”.
أما عن حياته مع التيارات غير الإسلامية التي انتهت معايشته لها إلى “التيارات الإسلامية” و”الفكرة الإسلامية”، فيقول: “دخلت اليسار لأجل القضية الاجتماعية، ولكن بالقراءة والتأمل في السجن أدركت أن حل المشكلة الاجتماعية يكمن في الإسلام، في نظرية الاستخلاف وليس في الصراع الطبقي والماركسية … مواقفي في مرحلة اليسار والمرحلة القومية ثم الإسلامية حصل فيها نضج وتطور، لكن لم تكن هناك فواصل حادة بينها. كنت يساريًّا بالمعنى الاجتماعي الثوري، وليس بالمعنى العَقَدي فلم يكن هناك إلحاد؛ لأن التجربة الروحية والتكوين الديني الأصيل عصمني من أن أُستوعَب في الفكر المادي والنظرية المادية. عندما أدركت أن حل المشكلة الاجتماعية في الإسلام -وليس في الماركسية- كان هذا بداية النضج في الموقف الإسلامي، وفي المرحلة الناصرية كان ثمة تركيز على البعد القومي والعربي، وأنا كنت وما زلت أدرك أن القومية دائرة من دوائر الجامعة الإسلامية، فلم يكن هناك تناقض بين الانتصار للوحدة العربية وللقومية العربية وبين الدائرة الإسلامية. في مرحلة اليسار لا أنكر أنه حدث عندي نوع من الغبش الفكري، ومن سلبيات المرحلة اليسارية -بالنسبة لي- أنني كنت أحفظ دواوين شعرية كثيرة، ثم نسيت هذا في مرحلة اليسار لأنني شغلتني المنشورات والنشاط السياسي، ولكن بدأ الغبش الفكري يزول في المرحلة الإسلامية شيئًا فشيئًا، وبعد 1967 تراجع المشروع القومي وأصبح التركيز على الدائرة الإسلامية، أيضًا مما عمق موقفي الإسلامي ظهورُ الصحوة الإسلامية في الثمانينيات، وتصاعد التحديات التغريبية للصحوة الإسلامية والحل الإسلامي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في 1991، الأمر الذي جعلني أفرد العديد من الكتب لمواجهة الفكر التغريبي والرد على غلاة العلمانيين، لكن ظلت الدائرة القومية والعربية، وقضية العدل الاجتماعي والثورة على الظلم الاجتماعي ملحوظة في كتاباتي، كما ظلت الدائرة الإنسانية والتفاعل مع الحضارات المختلفة موجودة في مشروعي الفكري”.
وفي سياق آخر يبين أن انتماءه لليسار لم يكن عقديا ولا أيديولوجيا وإنما كان لحمله القضية الاجتماعية والعدالة، يقول: ” وعندما ألغيت الأحزاب -ومنها مصر الفتاة والحزب الاشتراكي- لم يكن أمامنا لمواجهة الإقطاع إلا اليسار، فقد كان اليسار حينها فارس القضية الاجتماعية والعدل الاجتماعي، وكان له موقف من القضية الوطنية؛ فقد كان ضد القواعد العسكرية والوجود الأجنبي. وكنت قد دخلت اليسار من باب القضية الاجتماعية من باب القضية الثورية”.
ولهذا كتب د. عمارة كتبا في مواجهة مشاريع التغريب والغلو التغريبي والغلو العلماني من الرد على نصر أبو زيد (ت 2010م) وحسن حنفي وسعيد العشماوي، وغيرهم، ومما ألفه في ذلك: “التفسير الماركسي للإسلام”، و”فكر التنوير بين العلمانيين والإسلاميين”، و”الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين”.
وكذلك له مؤلفات عن التسلف والسلفية يقول في هذا: “كتبت كتيبًا عن “سلفية واحدة أم سلفيات”، وكتبت عنها في كتاب “تيارات الفكر الإسلامي”، وكان محمد عبده يتحدث عن أنه سلفي ويريد فهم الدين كما فهمه سلف هذه الأمة قبل ظهور الخلاف. كل إنسان سلفي، فكل إنسان له ماضٍ، ولكن ما ماضيك؟ هل هو عصر الازدهار أم عصر التراجع؟ كيف تتعامل مع سلفك؟ هل تهاجر من الحاضر إلى الماضي، أم تستلهم السلف والماضي لقراءة الواقع ولحل مشكلات الواقع؟ ولذلك لدينا سلفيات مختلفة”.
وهكذا نستطيع القول إن محمد عمارة استطاع أن يجمع بشكل كامل وواعٍ – حقيقةً لا ادعاءً – بين دراسة هذه التيارات فكرا وممارسة، تنظيرا ومعايشة، حبًّا وانتقادا حتى غدا هو بذاته رمزا من رموز الحركات والصحوات في عصره، وهذا مكَّنه من التأثير فيها وخلع على فكره سمة العملية والفاعلية والحركية.
سابعا: الجمع بين العلم والعمل الميداني:
أما هذه فميزة قلما تتوفر للكثيرين؛ فهي مناط الخيرية، ومعقد الربانية، ومحل التأثير الكبير الفاعل في العقول والقلوب والواقع على السواء.
فعلم بلا عمل لا قيمة له، وعمل بلا علم لا صحة فيه، وعلم وعمل بلا جهاد وصبر وتضحيات لا يقيم القدوة ولا التأثير الحقيقي في واقع الحياة.
وهذا ما دعا ابن القيم يقول واصفا “الرباني”: “فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ – يعني تعلم الهدى، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على مشاق الدعوة – صَارَ مِنَ الرَّبَّانِيِّينَ، فَإِنَّ السَّلَفَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْعَالِمَ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى رَبَّانِيًّا حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ وَيَعْمَلَ بِهِ وَيُعَلِّمَهُ، فَمَنْ عَلِمَ وَعَمِلَ وَعَلَّمَ فَذَاكَ يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ”. [زاد المعاد: 3/9. طبعة مؤسسة الرسالة].
فأما العلم فهو صاحب هذا المشروع الكبير مترامي الأطراف الذي لم يترك فيه جانبا من جوانب الإسلام عقيدة وشريعة، خلقا وحضارة، معاملات وآدابا، بيان حقائق ودفع شبهات، حتى غدا أكبر مشروع فكري معاصر تجاوز الثلاثمائة كتاب بما حقق له التأثير الكبير والواسع.
وأما العمل الميداني فهو الذي شارك في المظاهرات ضد الإنجليز وضد الصهاينة وفي مطالباتهم بإصلاح الأزهر ومناهجه، كما قصده كثير من طلاب العلم من أنحاء الدنيا ينهلون من علمه ويتربون على كتبه وفكره، وكان جوادًا سخيًّا مع كل من قصده.
وحينما سئل عن مقصوده بالمشروع الفكري أجاب إجابة تنبئك عن مركزية الواقع وفاعليته وأهيته في هذا المشروع، يقول: المشروع الفكري هو “أن نبرز حقيقة الإسلام ومعالمه: العقيدة والشريعة والمنظومة الفكرية، والإحياء الإسلامي للمجتمع، والهداية الإسلامية للإنسان، وعالمية الإسلام، وأيضًا فقه الواقع الذي نعيش فيه وإنزال هذه الأحكام الإسلامية على الواقع الذي نعيش فيه، والتصدي للحرب المعلنة على الإسلام. باختصار: ما هو إسلامنا؟ ما هو الواقع الذي نحن بحاجة إلى فقهه وإلى أسلمته؟ وما التحديات التي تواجه هذا الإسلام؟ هذه هي معالم المشروع الفكري”.
إن جمع العالم بين العلم والعمل يقيمه قدوة بين العلماء والناس، ويكسبه المصداقية والموثوقية، ويجعل من حياته منارة للعلماء وطلبة العلم، ويجعل فكره وعلمه حيًّا بين الناس يقبلون عليه ويمتحون منه وينتفعون به، ويجعله كالشجرة المباركة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
ثامنا: الجمع بين الفكر والأدب والتصوف:
ومن الأمور التي جمعها د. محمد عمارة وانعقدت له وأعطت لمشوعه الفكري ميزة كبيرة مكنته من الانتشار والتأثير والقدرة على التعبير والدخول على القلوب والعقول بغير استئذان، هو ذلك الأسلوب الأدبي الأخاذ، واللغة الباهرة التي تتطاوع له، والمفردات المترادفة التي تنقاد له، فيعبر بها عما يشاء من أفكار، ويعرض من خلالها ما يريد من رؤى وآراء، ويقرر بها معاركه الفكرية التي خاضها وانتصر فيها بلا استثناء.
وقد جمعت هذه اللغة الأدبية إلى جمالها صلابة الفكرة وقوتها، وجلال الأسلوب وجماله، ونداوة المعاني وطلاوتها بما جعل ما يكتبه عمارة وجبة متكاملة للعقل والروح والوجدان جميعا.
أما الجانب الفكري فحدث ولا حرج، فصاحبنا أول وصف وأكبر وصف وأصدق وصف عليه هو وصف “المفكر”، وقد كان هذا الوصف هو الأثير لديه، وما أنتجه من كتب وبحوث ومقالات يفوز وصف “المفكر” منها بنصيب الأسد.
وأما الأدب فقد حكى هو قائلا: “كنا في السنة الثانية الابتدائية وكان يدرّسنا النحو، ويقرأ لنا المقال الافتتاحي في جريدة المصري، دخل ذات يوم وسأل: من منكم يقدر على أن يشتري كتابًا غير الكتب المقررة؟ فذهبت واشتريت كتاب ‘النظرات‘ للمنفلوطي (ت 1924م)، وكان هذا أول كتاب اشتريته في حياتي من خارج الكتب المقررة، قال لي: أحضره معك، وكنت أقرأ وأطالع فيه، وفي آخر العام الدراسي أقمنا حفلة للشيخ وأهدينا له “علبة بنبوني”، وكتبتُ قصيدة شعر في مدحه”.
ويقرر مبينًا فضل ثقافته الأدبية على التعبير المؤثر والمعبر عن أفكاره: “ولأنَّ الطموحَ إلى أن أكون كاتباً – لا موظفاً- قد مَلَكَ عليَّ كياني منذ تلك اللحظات، فلقد توجهتُ إلى عالَم القراءة الحرة، وأعطيتُها أغلب أوقاتي، حتى إني جعلتُ الثقافةَ العامةَ مُعيناً على اختصار الساعات التي أعطيها للكتب الدراسية المقررة .. فكانت الثقافة الأدبية والقراءات الحرة هي التي تُنَمي وتُدَبِّج وتُحَسِّن الإجابات في الامتحانات”.
وعن مكتبة الشيخ عبد التواب الشناوي التي اشتراها بعد وفاته وهي تضم أربعة آلاف كتاب، يقول مبينًا حجم الكتب الأدبية التي قرأها: “وبعد استيعاب هذا الكنز المعرفي الثمين والعريض والعميق، وبعد الحفظ لعديدٍ من دواوين الشعر الجاهلي والإسلامي (مثل المتنبي والمعري) وللعديد من نصوص الأدب العربي المختارة كنماذج للبلاغة والفصاحة : بدأتْ على نحو سَلِسٍ وطبيعي الرغبةُ في الكتابة والإبداع, فكتبتُ ونشرتُ – شعراً ونثراً- في عدد من الصحف والمجلات”.
وأما التصوف فقد كانت لعمارة تجربة صوفية يقول عنها: “في مرحلة الابتدائي والثانوي -قبل الارتباط باليسار- كانت لدي تجربة في المجاهدة الروحية والتصوف غير الطرقي، وكنت أخطب على المنبر ضد الطرق الصوفية وأعلّم الناس فرائض الدين ومقاومة الظلم، وفي الجمعة التي سبقت ثورة يوليو صادف أن انتقدت الملك فاروق، وعندما عُزل بعد الثورة ظن بعض الناس أنني كنت على علم بتفاصيل ثورة يوليو، وظن آخرون أنني من أولياء الله الصالحين”.
ويقرر أيضا إنه لم يُخدَع بالطابع المادي والتفسير المادي لنشأة الخلق، ولا بالتطور التاريخي، يقول: “لأن تكويني الأول كان “تكويناً دينياً” و”تجربةً روحيةً صوفيةً ذاتيةً” .. ولم يكن لي علاقةٌ بالجماعات أو الطرق الصوفية, بل كنتُ ضد هذه الطرق باستمرار, وكنتُ أحاربها .. وإنما كانت تجربتي روحيةً أمارس فيها العبادةَ بشكل مكثف”.
بل إنه كان يرى أن الاستغراق في العمل الفكري من “السكر الحلال” – كما يقول الصوفية – الذي ينسيه متاعب الحياة، يقول: “فالعمل الفكري والاستغراق فيه هو علاج حتى للأمراض العضوية التي يعاني منها الإنسان، وإذا كان الصوفية يتحدثون عن الخمر الحلال والسُّكْر الحلال فأنا أرى أن العمل الفكري هو السُّكْر الذي يُبعدك عن منغصات الحياة.”.
هذه التجربة الصوفية هي التي جعلت عمارة يقول كلمة تمتع العقل وتشبع النفس عن رسولنا المصطفى إذ يقول: عن علاقته به: “إنني عاشق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، متبتل في محراب سنته وسيرته، متعلق بصفاته وشمائله، مفتون بسجاياه، واقف على أبواب عظمته، مبهور بالتحولات التي أنجزها في مسيرة الدين والدنيا، غيورٌ على دينه ودعوته، مقاتل دون حماه”.
ويحكي عن هذه التجربة مستطردا: “هذه التجربة كانت فيها مجاهدات روحية مَنَّ اللهُ تعالى عليَّ فيها برؤية اليقين, عينِ اليقين .. وعرفت معنى “فراسة المؤمن” التي حدثنا عنها رسول الله (ص) .. بل أقول لك : في تلك الفترة رأيت رسول الله (ص) في الرؤيا .. بل ورأيت ليلة القدر، وهي تجربة لن أحكي تفاصيلها, لكنْ أقول لك كيف كنتُ أستعد : بالتعبد بالركعات والدعوات, ومنها دعاءٌ صُغتُهُ لنفسي وقتها : “اللَّهم اغفر لي واجعلني من أهل العلم إنك على كل شيء قدير”.
ويفرق د. عمارة بين الصوفية الحقة المجاهدة وبين الصوفية الطرقية المنحرفة، يقول: (“التصوفُ” ليس نهجاً واحداً، إذ منه التصوف الذي هو “علم القلوب والسلوك والإحسان المنضبط بضوابط الشريعة وأحكامها [ومقاصدها]”.
وهو الذي كان عليه كبار الزهاد والأقطاب والعارفين الذين سلكوا “طريق المجاهدات والرياضات الروحية”، منذ عصر صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وحتى العصر الذي نعيش فيه.
لقد جاهدوا [غلوَّ الغرائزِ والشهواتِ]، وجاهدوا الزخارفِ الدنيوية، وصعدوا بأرواحهم على طريق “المقامات والأحوال”، يبتغون “القُرب والفناء” في صفات “الجلال والكمال والجمال” للذات الإلهية، حتى فني عن مَشَاغِلِهم كل ما سِوَى الله.
وفي ذات الوقت، [وبسبب ما سبق، وليس بالرغم عنه]، عاشوا قضايا الإسلام وأمته، فكانوا أئمة الجهاد الذي خاضته الأمة في مواجهة المخاطر والتحديات، لقد:
– أقاموا الدين في قلوبهم وسلوكهم، وجاهدوا أعداءه في ميادين القتال، وقادوا الأمة في مقاومة الاستبداد وحكم التغلب والمتغلبين، ووسعوا دوائر انتشار هذا الدين الحنيف؛ بالقدوة الحسنة والنموذج الطيب والمثال الصالح .. [باختصار، لقد] كانوا أئمة في “فقه الورع” وفي “فقه الواقع” وفي “فقه الأحكام” على حد سواء.
أما “الطرق الصوفية”، فإنها وإن بدأ الكثيرُ منها بداياتٍ صحيحةً وتجديديةً وجهاديةً (نَشَرت الإسلامَ، وحاربت دفاعاً عنه، كما حدث في الكثير من البلاد الأفريقية)، إلا أن الكثيرَ مِن الذين توارثوا هذه الطرق – باستثناء مَن عصم ربي- قد غرقت في “بحار البدع والشعوذات والخرافات”؛ فخلطت “صلاحاً قليلاً” بـ “الكثير الذي أفسد [الإيمانَ والسلوكَ]” عند [قطاعات كبيرة من] الأتباع والمريدين”). أ.هـ.
هكذا جمع عالمنا المفكر بين العمل الفكري والتشبع من الأدب شعرا ونثرا أسعفه في التعبير عما يشاء من فكر وعلم، وغلف هذا كله وحفَّه بصوفية محببة راشدة لم تجعله ينزوي في زاوية أو ينحرف في ممارسة، وإنما كان هذا التصوف حافزًا له على مقارعة الظلم ومواجهة المستبدين.
تاسعا: الجمع بين السلفية والتجديد:
من الجوانب المتكاملة التي جمع بينها د. محمد عمارة جانب أو مجال “السلفية” ومجال: “التجديد”، وهذا لا يجتمع إلا عند الراسخين الواعين بأهمية الجمع بينهما والصدور عنهما، فالسلفية لا تكون إلا تجديدية، والتجديد لا يكون إلا سلفيًّا.
وفي عدد ليس قليلا من كتبه ومقالاته كان يتحدث عن الهوية وحفظها والاستقلال الحضاري والخصوصية الحضارية لا سيما في ظل العولمة التي تريد أن تصب العالم الإسلامي في القالب الغربي، فمن كتبه التي كتبها في ذلك: الإبداع الفكري والخصوصية الحضارية، مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، مقالات الغلو الديني واللادينى، الإصلاح الديني في القرن العشرين، مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية، وغير ذلك.
ويفرق د. عمارة في مشروعه الفكري الذي جعل الوسطية من ركائزه: “بين “السلفية في الدين” (التي تعود بعقائده وعباداته وقيمه إلى منابعها الأولى الجوهرية والنقية) وبين “سلفية الجمود والتقليد” (التي تحلم بالهجرة من الحاضر إلى الماضي, والتي تخاصم العقل والاستنارة والتقدم والنهوض)”.
ويقرر أنه لا تعارض بين السلفية الحقة والتجديد الصحيح، يقول: “بعض الناس يتصور أن السلفية نقيض للتجديد، نقيض للتقدم، بل أصبحت كلمة السلفية عند بعضهم سُبة يُرْمَى بها الغير .. بينما السلف هو الماضي، وليس هناك إنسانٌ بلا ماضٍ .. وليس هناك إنسان إلا وهو سلفي .. لكن القضية هي مَن هو سلفك؟ هل سلفنا عصر التراجع الحضاري أم عصر الازدهار الحضاري؟ .. وكيف نتعامل مع السلف؟ هل أهاجر إلى السلف؟ أم أننا نسترشد بالسلف؟”.
ومن كتبه عن السلفية التي أجاب فيها عن هذه الأسئلة وغيرها وقرر حقائق كثيرة في هذا الشأن، كتبه: السلفية: واحدة أم سلفيات، السلف والسلفية، السلفية “رسائل الإسلاح 31″، وكتب عن السلفية كمصطلح في كتبه التي خصصها للحديث عن المصطلحات.
ومن كتبه عن التجديد أو التي تناول طرفا من قضايها في ضوء التجديد: التقدم والإصلاح بالتنوير الغربي أم بالتجديد الإسلامي، مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية (رسائل الإصلاح 10)، الشيخ شلتوت إمام في الاجتهاد والتجديد (رسائل الإصلاح 15)، الخطاب الديني بين التجديد الإسلامي والتبديد الأمريكاني.
إن الجمع بين السلفية والتجديد عند المفكر يعطيه الأصالة والقوة، والرصانة والقدرة، ويمنحه مزيدًا من العمق الذي يمكنه من التأثير والمضي قدُمًا لتثبيت مشروع الإسلام الحضاري الذي يبين الفكرة ويبلغ الدعوة ويقيم الحجة ويدحض الشبهة، وقد كان لعمارة من هذا النصيب الكبير إن لم يكن الأكبر في عصره.
عاشرا: الجمع بين الوطنية والعروبية والإسلامية والإنسانية:
جمع الدكتور محمد عمارة هذه الدوائر في مشروعه الفكري، وإن بدأ في بدية مشواره ومشروعه بالوطنيات والقوميات والعروبيات، لكنه وجد هذا كله وزيادة في الإسلام الذي قاده إلى استيعاب هذا كله وصَهْره، وانتهى به إلى الإنسانية.
ولقد ألف د. عمارة ضمن مشروعه الفكري العملاق كتبا عن هذه الدوائر الوطنية والقومية والإسلامية والإنسانية، وأحيانا يكتب عن القومية والوطنية، وأحيانا أخرى يبين ما في الإسلام من أبعاد إنسانية، ظهر هذا بجلاء في عدد ليس قليلا من عنوانات كتبه، ومن ذلك: الجامعة الإسلامية والفكرة القومية، الأقليات الدينية والقومية تنوع ووحدة أم تفتيت واختراق؟، فجر اليقظة القومية، الإسلام والوحدة القومية، القومية العربية ومؤامرات أمريكا ضد وحدة العرب، ظاهرة القومية في الحضارة العربية، حقائق وشبهات حول الوطنية والقومية والجامعات الإسلامية، ظاهرة القومية فى الحضارة العربية، العروبة فى العصر الحديث، الأمة العربية وقضية الوحدة، القومية العربية ومؤامرة أمريكا ضد وحدة العرب، ثورة الاستقلال والوحدة الوطنية، ثورة 1919 والوحدة الوطنية، المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية، السنة النبوية ومعرفة الإنسانية، مستقبلنا بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية، السماحة الإسلامية.
ومما يؤكد على هذا أن أول كتب كتبها عمارة كانت عن القومية ثم ما لبث أن اكتشف وجود هذه الأبعاد والدوائر كلها في الإسلام، يقول: “وفي تلك الفترة كتبت أربع كتب؛ قبل السجن كتبت كتابًا عن القومية العربية ومؤامرات أميركا ضد العرب، حين كنت طالبًا في دار العلوم، كتبته في مواجهة فكر يساري ينكر وجود أمة عربية، وأنا بتراثي الإسلامي أدركت أن الأمة العربية تكونت بظهور الإسلام، فعكفت أسبوعًا وكتبت هذا الكتاب، وكان أول كتاب في مصر ينشر عن القومية العربية بعد الوحدة بين مصر وسوريا، وطُبع طبعتين وتُرجم إلى الروسية. كتبته في 1957 وطُبع في 1958، وعندما دخلت السجن واستقرت الأمور عكفت على القراءة لتطوير هذه الدراسة، فكتبت كُتُبَ: ‘فجر اليقظة القومية‘، و‘العروبة في العصر الحديث‘، و‘الأمة العربية وقضية الوحدة‘، و‘إسرائيل هل هي سامية؟‘؛ وهي دراسة تقارن بين المشروع الصهيوني والمشروع الصليبي. ونشرت هذه الكتب بعد أن خرجت من السجن”.
إن الجمع بين كل هذه الدوائر لا يقدر عليه إلا الإسلام، ولا يستطيع تجليته وبيانه وإكهاره بحقيقته وطبيعته غير المتعارضة ولا المتناقضة إلا “المفكر الإسلامي” في حين يرفضه المفكرون الوطنيون والقوميون، بلا ينكرونه؛ فضلا عن بيان الانسجام بينها وعدم التعارض فيها، وقد قدم د. عمارة في مشروعه الفكري هذه الدوائر كلها متسقة ومنسجمة ومتكاملة لا متعارضة ولا متناقضة مما خلع على مشروعه ميزة خاصة تتناسب مع هذا التنوع والتكامل والثراء.