قد تؤدي العقوبات الغربية على روسيا وخطط تقليل الاعتماد على النفط والغاز الروسيين إلى زيادة الانبعاثات رغم التوسع في استخدام الطاقة النظيفة؛ لأن ذلك قد يعرقل عملية التخلص التدريجي من الفحم والاعتماد على الغاز المسال، وفق تقرير لموقع “دويتشه فيله”.
عندما أرسل الرئيس فلاديمير بوتين القوات الروسية إلى أوكرانيا في أواخر فبراير، قام الجيش الروسي بقصف المنازل والمستشفيات وحتى محطة للطاقة النووية، بل إنه قلب رأساً على عقب نظام الطاقة نفسه الذي يمول بشكل غير مباشر غزوه لأوكرانيا.
كانت أربع من أكبر شركات الوقود الأحفوري في العالم قد وعدت بالانسحاب من روسيا، متخلية عن أصول تتجاوز قيمتها الـ20 مليار دولار، كما أوقفت ألمانيا، أكبر المستوردين، خط أنابيب جاهزاً كان من شأنه أن يجلب لها الغاز الروسي مباشرة، وفرضت الولايات المتحدة عقوبات على جميع أنواع الوقود الأحفوري الروسي، بينما قالت المملكة المتحدة: إنها ستتوقف عن شراء النفط الروسي، والاتحاد الأوروبي أعلن عن خطط لخفض واردات الغاز الروسي بنسبة 80% هذا العام والتخلص التدريجي من الباقي، بما في ذلك الفحم والنفط، بحلول عام 2027.
أسواق الطاقة العالمية في أزمة
تقول ماريا باستوخوفا، الخبيرة الجيوسياسية لتحولات الطاقة في المناخ (E3G) التي تتخذ من برلين مقراً لها لموقع “دويتشه فيله”: إن أسواق الطاقة تمر الآن بواحدة من أعمق أزمات الأسعار والعرض منذ عقود، ولا نعرف إلى أي مدى سيتطور هذا الأمر.
واليوم هناك محاولات أوروبية محمومة للتخلص من الإدمان على الغاز الروسي بما قد يسرع من الانتقال إلى الطاقة النظيفة، لكن هذه المحاولات تدفع أوروبا في الوقت نفسه نحو الوقود الذي يجب أن تتخلى عنه تدريجياً لمنع درجات الحرارة العالمية من الارتفاع بشكل متسارع.
وحذر تقرير علمي للأمم المتحدة من أن أي تأخير إضافي في العمل المناخي قد يغلق “نافذة صغيرة من الفرص، لتأمين مستقبل صالح للعيش ومستدام للجميع”.
وفي غضون أسبوعين من الغزو الروسي، أعلن الاتحاد الأوروبي عن خطط لتركيب توربينات الرياح والألواح الشمسية والمضخات الحرارية بشكل أسرع من أي وقت مضى.
محاولات أوروبية للتخلص من الإدمان على الغاز الروسي قد يسرع من الانتقال إلى الطاقة النظيفة
والتزمت ألمانيا بمبلغ 200 مليار يورو لإزالة الكربون من إمدادات الكهرباء بحلول عام 2035، ولكن في الوقت نفسه، وعد أكبر اقتصاد في الكتلة ببناء محطتين للغاز الطبيعي المسال كجزء من حملة قارية لاستبدال الغاز الروسي بالوقود الأحفوري الوارد من مكان آخر، كما أن الغاز المرتفعة للغاية والمخاوف من أن بوتين قد يغلق الصنبور فجأة، تهدد بعودة استخدام الفحم، وهو وقود أكثر تلويثاً للبيئة ووعد القادة بالتخلص منه.
وتقول هانا دالي، وهي محاضرة في الطاقة المستدامة في جامعة كوليدج كورك في أيرلندا: هناك فرصة لتحفيز هذا الاتجاه، من أجل دفع الانتقال إلى استخدام الطاقة النظيفة إلى الأمام بسرعة كبيرة، وتستدرك بأن هناك أيضاً إشارات خطيرة على أن السياسات ستعمل في الاتجاه المعاكس.
استبدال الوقود الأحفوري الروسي
تعد روسيا أكبر مصدر للنفط والغاز الطبيعي في العالم، منذ بداية الغزو، باعت روسيا للاتحاد الأوروبي ما قيمته أكثر من 11 مليار يورو من الوقود الذي تم حرقه لتدفئة المنازل وتشغيل محركات السيارات وتوليد الكهرباء، لكن هناك لغزاً يواجه صانعي القرار، وهو تأمين وقود كافٍ لفصل الشتاء القادم إذا توقف هذا الإمداد.
ويقول جورج زاكمان، محلل المناخ في مركز بروجيل للأبحاث والدراسات ومقره بروكسل: إنه إذا كان الحظر سيستمر لفترة أطول أو قامت روسيا بقطع إمدادات الغاز، فسنحرق المزيد من الفحم ونشهد انبعاثات أكبر على المدى القصير، لكننا سنقوم أيضًا بتركيب وتشغيل مصادر الطاقة المتجددة والمضخات الحرارية على نطاق واسع، وسنمر بالمرحلة الانتقالية بشكل أسرع مما خططنا له في البداية.
وكان الاتحاد الأوروبي قد وضع إستراتيجية مزدوجة لتقليل اعتماده على الغاز الروسي، وهي: دفع الاستثمارات الخضراء إلى الأمام مع مبادلة الغاز الروسي بالوقود من دول أخرى.
وتخطط الكتلة الأوروبية لشحن 50 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال كل عام من دول مثل قطر ومصر والولايات المتحدة التي تستخرج ثلثي غازها من خلال “التكسير”، وهو شكل من أشكال الإنتاج أكثر ضرراً بالبيئة، إذ يعتمد على تقنية حفر تستخدم لاستخراج النفط أو الغاز الطبيعي أو الطاقة الحرارية الأرضية أو المياه من أعماق الأرض.
ويريد الاتحاد الأوروبي الحصول على 10 مليارات متر مكعب أخرى من خلال الأنابيب من دولٍ أخرى مثل أذربيجان والجزائر والنرويج.
وعلى عكس النفط الذي يمكن شحنه بثمن بخس في جميع أنحاء العالم بحالته الطبيعية، يحتاج الغاز الطبيعي إلى النقل عبر خطوط الأنابيب أو تبريده إلى درجات حرارة منخفضة للغاية تسمح بنقله في صورة سائلة على متن ناقلات خاصة.
لكن بناء محطات جديدة لاستقبال شحنات الغاز الطبيعي المسال، كما تخطط ألمانيا للقيام به على ساحلها الشمالي بحلول عام 2026، يهدد بالاعتماد على الوقود الذي سيتعين عليها التخلي عنه لمنع درجات الحرارة من الارتفاع.
وقال المستشار الألماني أولاف شولتس: إن المحطات ستُعاد تهيئتها لاحقًا لاستقبال شحنات الهيدروجين، وهو وقود يمكن تصنيعه بطريقة نظيفة باستخدام الكهرباء من مصادر متجددة، لكن الخبراء يشككون فيما إذا كان ذلك ممكنًا من الناحية الفنية.
الكتلة الأوروبية تخطط لشحن 50 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال كل عام من قطر ومصر والولايات المتحدة
وقف الطلب على الغاز
يأتي أكثر من ثلث إمدادات الغاز المخطط لها في الاتحاد الأوروبي هذا العام من سياسات خفض الطلب على الوقود الأحفوري، وتركيب المزيد من الألواح الشمسية وتوربينات الرياح، وتركيب مضخات حرارية مما يجعل المباني أكثر كفاءة في استخدام الطاقة، بحلول نهاية العقد الحالي، يجب أن تضاعف هذه السياسات تلك الوفورات.
ويقول جان روزنو، المدير الأوروبي لمشروع المساعدة التنظيمية، وهي منظمة تعمل على إزالة الكربون من قطاع الطاقة: إن هذه الأرقام ليس لها أي معنى ما لم يتم دعمها بتغيير حقيقي على الأرض، ويضيف بأن الإجراءات الملموسة يجب أن تشمل إصلاحاً شاملاً لعمليات منح التصاريح بإنتاج الطاقة من المصادر المتجددة، وتحول الدعم من مراجل الغاز إلى مضخات التدفئة، وتدشين حملة إعلامية عامة لتوفير استهلاك الطاقة في المنزل.
وكان القادة الأوروبيون قد تجنبوا إلى حد كبير الحديث عن آخر مرة يتم فيها الاعتماد على الطاقة الروسية حتى الآن، ويقول نوح جوردون، خبير المناخ في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي: أنا أفهم سبب عدم قيامهم بذلك، فمطالبة الناس بالاعتدال في استهلاكهم هي سياسة مروعة، حتى في أوروبا الغنية والخضراء نسبيًا.
وعادة ما يتم ضبط منظم الحرارة في المنازل العادية بالاتحاد الأوروبي على أكثر من 22 درجة مئوية (71 درجة فهرنهايت) وسيؤدي خفضه بمقدار درجة مئوية واحدة إلى تقليل الطلب على الغاز بنسبة 7%، وفقًا للوكالة الدولية للطاقة، كما أن خفضه بمقدار درجتين إضافيتين وارتداء سترة وجوارب إضافية، يمكن أن يوفر الكثير من استهلاك الغاز الذي تتوقع الوكالة الدولية للطاقة أن توفره أسواق الغاز الطبيعي المسال.
وفي سياق متصل، تحدث عدد من السياسيين والخبراء الأوروبيين عن مدى أهمية الجهود الفردية لتقليل الاعتماد على إمدادات الطاقة الروسية.
وقال وزير الاقتصاد وحماية المناخ الألماني، روبرت هابيك: إذا كنت تريد أن تؤذي بوتين قليلاً، فعليك بتوفير استهلاك الطاقة.
وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، في حديث لـ”القناة الألمانية الثانية” (ZDF) العامة: يمكننا جميعًا المساهمة في تقليل الاعتماد على الغاز الروسي، ناهيك عن الوقود الأحفوري، من خلال توفير الطاقة.
وتناول جوزيب بوريل، كبير مسؤولي السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، بشكل صريح الحاجة إلى تعديل مؤشرات درجات الحرارة داخل المنازل، وذلك في خطاب ألقاه أمام البرلمان الأوروبي بقوله: “يحتاج المواطنون الأوروبيون إلى خفض درجة حرارة أجهزة التدفئة في منازلهم”.
وشدد جميع الخبراء الذين تمت مقابلتهم في هذا المقال على الحاجة إلى تشجيع الإجراءات الفردية كجزء من تحول هيكلي في كيفية تدفئة القارة لمنازلها وتوليد الكهرباء.
وتقول الخبيرة الجيوسياسية ماريا باستوخوفا: إن الخطط الجديدة لتكثيف الاستثمارات في مجال الطاقة المتجددة وتركيب مضخات حرارية وعزل المباني كان يجب أن يكون قد تم قبل الآن بوقت طويل، وتضيف بأن هذا هو الدرس الذي يجب أن يتعلمه الاتحاد الأوروبي بهذه الطريقة الصعبة.