دائماً ما تكون النماذج أفضل وسيلة للتعلم ونشر الأفكار والنظريات السياسية وقابليتها للحياة، في هذا المقال سنتحدث عن التجربة السياسية السنغالية، ونظيرتها في جامبيا، وكيف تصالحت الدولة الحديثة بنموذجها الغربي مع الفئات المتدينة ودمجتهم في المجتمع.
في لقاء جمعنا، الأسبوع الماضي، مع السفير السنغالي المتجول مستشار الرئاسة والبرلماني السابق أحمد تاجان، والسفير المتجول الجامبي إمام خليل جايت.
السنغال دولة غرب أفريقية تقع على ساحل المحيط الأطلسي، يبلغ عدد سكانها تقريباً 15 مليون نسمة، تعيش على السياحة والصيد والزراعة التي تصدرها إلى أوروبا، احتلت من قبل الفرنسيين لأكثر من 250 سنة، وخرج منها الاستعمار الفرنسي في منتصف القرن الماضي بعد ثورة دينية على الاستعمار، غالبية سكانها من المسلمين السُّنة وبها أقلية شيعية جاءت من الهجرات اللبنانية وأقلية مسيحية، وهي دولة ديمقراطية حديثة يحكمها حزب ليبرالي.
جامبيا دولة مجاورة للسنغال عدد سكانها 2.5 مليون نسمة، مطلة على المحيط الأطلسي، يعمل أهلها في الزراعة والصيد والسياحة، استعمرتها بريطانيا لأكثر من 400 عام، لم تخضع للحكم العثماني كما هي السنغال، غالبيتها من المسلمين السُّنة الذين يبلغون فيها أكثر من 98%، وأقلية مسيحية، يحكمها نظام ليبرالي ديمقراطي منذ استقلالها عام 1968، حصل فيها انقلاب عسكري واحد استلم السلطة لمدة عام ثم قام بتسليمها للشعب مرة أخرى.
السنغال وجامبيا يوجد لديهما ذات القبائل وذات اللغات وذات العرق وذات التركيبة الدينية؛ أغلبية مسلمة سُنية صوفية، تشتهر الدولتان بكثرة حفَّاظ كتاب الله تعالى، إذ يوجد في السنغال ما يقرب من ربع مليون حافظ للقرآن، وتنتشر المدارس الدينية في كل مكان وبتنوع يثري المجتمع السنغالي والجامبي، وتترك الحركة الصوفية أثراً دينياً واضحاً في ثقافة هذه المجتمعات.
بعد استقلال السنغال وجامبيا، ذهبت هاتان الدولتان وبإشراف المستعمر الفرنسي والإنجليزي إلى تكوين دساتير للدولة الحديثة، ولأنهما أغلبية شعبيهما مسلمون، فقد ساهمت الحركات الصوفية في تقبل الشعبين للدولة الحديثة، ولم يجدوا في نموذج هذه الدولة أي خطر على تركيبة الدولة وهويتها، بل إن المتدينين أصبحوا جزءاً من هذا النظام المدني الحديث، يؤمنون به ويحافظون عليه، وأطلقت لهم الدولة اليد في نشر التدين وبناء ضمير الناس مع إطلاق الحرية لكل فئات المجتمع ليختار الإنسان ما يناسبه، فلم يكن هناك تعارض بين تدين الناس وحداثة الدولة وليبراليتها السياسية والاجتماعية، فحازوا الحسنيين؛ دولة حديثة ومجتمعات متدينة محافظة، إذ تقف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان وتشجع التدين وتطلق يده في المجتمع مما شكل حالة تصالح قد تكون حالة فريدة ما بين الدين والدولة الحديثة.
هناك حالة من التصالح ما بين الفئات المتدينة والدولة الحديثة ومشاركة الفئات المتدينة باعتبارهم جزءاً من النظام للدولة الحديثة يدافعون عنها وعن ليبراليتها، كما أن المتدينين يجمعون على أهمية عدم وجود أحزاب دينية في الحياة السياسية، وأن الأحزاب مهمتها محصورة في المنافسة من أجل تحسين حياة الناس ومعاشهم لا من أجل استعمال الدين في التنافس السياسي، باعتبار أن الدين قيمة عليا وسامية تظلل الجميع وملك للجميع، ولا يحق لأحد أن يستخدم الدين في مواجهة مواطن آخر يختلف في التوجه السياسي.
هذا النموذج في التصالح ما بين الفئات المتدينة والدولة الحديثة قد نكون نحن بأمسّ الحاجة إليه في العالم العربي، إذ رأينا كيف تم إهدار فرصة “الربيع العربي” وعاد الاستبداد يحكم قبضته على المنطقة العربية نتيجة للصراعات الصفرية التي حدثت ما بين “الإسلام السياسي” والقوى الليبرالية والاشتراكية التي انحاز بعض منها إلى الاستبداد وحكم العسكر في مواجهة “الإسلام السياسي” الذي رأى فيه العلمانيون خطراً على شكل الدولة ومستقبلها، فاستطاع الاستبداد استثمار هذا الصراع والعودة بطريقة أبشع مما كان عليه.
في مصر وكثير من دول العالم العربي استفاد الاستبداد من هذا الصراع الصفري الذي نشب بين القوى العلمانية و”الإسلام السياسي” ليقضي على الديمقراطية ويخسر الجميع ويبعد الكل عن الساحة السياسية ويعود الحكم المستبد أو الحروب الأهلية والدمار لكل البلاد.
نموذج السنغال وجامبيا في محاولة التعافي من فترات الاستعمار الطويل وإعادة بنائهما سياسياً وفقاً لنموذج الدولة الحديثة المتصالحة مع الدين ليكون الدين رافعة من روافع وحدة البلاد وتماسك المجتمع وتعزيز مؤسسية الدولة الحديثة وعدم التآكل أو الصراع معها، هذه النماذج نحن بحاجة إلى دراستها والاستفادة منها لتذهب كل فئات المجتمع وتنوعاته إلى النضال من أجل عودة الحرية والديمقراطية ومحاربة الاستبداد وحكم الفرد في البلاد العربية.