سعد أناس بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا ونعموا بقربه واستناروا بنوره، وقد فاتنا ذلك، لكن ما زالت أمامنا الفرصة سانحة لكي نصاحبه صلى الله عليه وسلم في الجنة.
وقد كان من صحبوه في الدنيا يحملون هَمَّ مفارقته صلى الله عليه وسلم في الجنة حتى لو سكنوا فيها وتنعموا بنعيمها، فهذا رجل من الأنصار لا يكاد يصبر على فراق النبي صلى الله عليه وسلم فإذا تركه وعاد إلى بيته عاود مسرعاً لكي يملأ عينيه من النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يفعل ذلك لظن أنه سيموت من شدة الشوق والحب، تفكر هذا الصحابي الجليل في أمر الآخرة وأنه سيموت وسيموت النبي صلى الله عليه وسلم كما سيموت الخلق، وسيكون النبي صلى الله عليه وسلم في أعالي الجنان، وهذا الصحابي في درجة أقل، فكيف سيكحل عينيه برؤية النبي صلى الله عليه وسلم والدرجات متفاوتة، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاعره ومخاوفه، فأنزل الله عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} (النساء: 69، 70)، فطاعة الله تعالى وطاعة رسوله من أسباب مصاحبته صلى الله عليه وسلم وإخوانه من النبيين، طاعة بحب تؤدي إلى تنفيذ الأمر الإلهي والوقوف عند حدود النهي، طاعة ترتكز على الإيمان بالله تعالى وبقوله عز وجل: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216)، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (البقرة: 220) وكفى بذلك سبباً للطاعة أما أن تؤخر طاعة الله سبحانه وتعالى حتى يتم الاقتناع ويرى البعض ذلك خير من الطاعة التي يقولون عنها عمياء وهي ليست كذلك، بل هي طاعة مبصرة أدركت أن الله تعالى لا يأمر إلا بخير قد ندركه بالتفكر والتدبر وقد يغيب عنا الآن وقد لا ندركه إلا بعد مدة لكن هذا هو مقتضى الإيمان.
ومما يجب الالتفات إليه أن الإسلام مع التدبر في أوامر الله تعالى ونواهيه ويعتبر ذلك عبادة، لكن قدرات العبد المحدودة أحياناً تقف حجر عثرة أمام رؤيته للخير، فطاعة الله ورسوله سبب من أسباب مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة.
ومما يسلك بالعبد في سلك من يصحبون النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة حسن الخلق قال صلى الله عليه وسلم: “إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً” (سنن الترمذي)، وفي رواية أخرى: “إن أحبكم إليّ أحاسنكم أخلاقاً، الموطؤون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون” (الطبراني في الأوسط والصغير).
فإتمام مكارم الأخلاق هو الغاية من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك كان صاحب الأخلاق الحسنة مصاحباً للنبي صلى الله عليه وسلم في أعالي الجنان، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى شرح الأخلاق الحسنة بأن صاحبها لين الجانب لا يؤذي خلق الله تعالى بلسانه أو بعينه أو بيده أو بسعيه في الإضرار بهم والتفريق بين الأحبة، وصاحب الأخلاق الحسنة أيضاً يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، والنفرة من الخلق والانعزال عن أهل الخير سبب لورود الوساوس والتقصير في الواجبات واستيلاء شياطين الإنس والجن، فالشيطان إلى الواحد أقرب وهو من الاثنين أبعد ومهما كانت حالة الإنسان من التقوى والورع والفكر سيجد من يناسبه لكن ذلك يحتاج إلى بحث وجهد.
وللنساء نصيب في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة كذلك، عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَلَيهِ وسَلم قَالَ: أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ، امْرَأَةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا فَصَبَرْتَ عَلَى وَلَدِهَا، كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ. (الأدب المفرد)، تلك المرأة التي تولت رعاية صغارها بعد وفاة والدهم وتركت حظ نفسها من الدنيا لتقوم على رعاية أبنائها، هذه المرأة يَعِدُها النبي صلى الله عليه وسلم بمصاحبته في الجنة جزاء ما قدمت من عمل صالح في رعاية أبنائها وجزاء صبرها عن حاجة نفسها للزواج، وفي النساء من بذلت ما في وسعها في تربية أبنائها وإن كان والدهم موجوداً تعينه على أعباء الحياة حتى أصابها الجهد الذي ظهر على ملامح وجهها، وكم من النساء من تشارك زوجها أعباء الحياة وتقدم حق أسرتها على حقها فرضي الله عنهن وأكرمهن بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة.
وممن يصاحب النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة كافل اليتيم الذي ينقذه من الضياع ويوجهه إلى الخير ويعينه عليه ويحفظه من الصحبة السيئة، قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ إِذَا اتَّقَى»، وَأَشَارَ بِإِصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ (الاستذكار)، ويوسع النبي صلى الله عليه وسلم مفهوم كفالة اليتيم ليشمل القريب والغريب حتى يتكافل المجتمع ويأخذ بعضه بيد بعض.
ومن رفقاء النبي صلى الله عليه وسلم أولئك الذين يضحون بأنفسهم ويقتحمون المصاعب إرضاء لله تعالى ونفعاً للمسلمين ففي غزوة الأحزاب احتاج النبي صلى الله عليه وسلم من يستكشف له أمر أعدائه فقال: “من رجل يقوم فَينْظر لنا مَا فعل الْقَوْم: ثمَّ يرجع”، فَشرط لَهُ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرّجْعَة، أسأَل الله أَن يَجعله رفيقي فِي الْجنَّة؟ فَمَا قَامَ رجل من شدَّة الْخَوْف والجزع وَالْبرد، فَلَمَّا لم يقم أحد دَعَاني، فَقَالَ: “يَا حُذَيْفَة اذهب وادخل فِي الْقَوْم..” (عمدة القاري).
وممن أعلن النبي صلى الله عليه وسلم مرافقته في الجنة عثمان رضي الله عنه أخرج الترمذي مرفوعاً: “لكل نبي رفيق، ورفيقي في الجنة عثمان”؛ ولعثمان رضي الله عنه فضائل كثيرة من الجود والحلم والسبق في الإسلام وغيرها كثير لكن يمكن أن نقف على إحدى أبرز خصاله رضي الله عنه، قال علي: “كان عثمان أوصلنا للرحم”، فلصلة الرحم أثرها العظيم في تحقيق رضوان الله تعالى ومحبة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وهناك من يصاحب هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته وسيرته تعلماً وتعليماً وكتابة وخطابة ويجتهد في تطبيقها في خاصة نفسه وفيمن يعول وهؤلاء يرجى لهم إن أحسنوا صحبة هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يرافقوه في أعلى الجنان.
ونختم بهذه البشارة النبوية التي تدعونا أن نصفي قلوبنا ونختار من نضعهم فيها لأن هذا الاختيار أحد ما يحدد وضعنا عند الله تعالى، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟» قَالَ: لَا شَيْءَ إِلَّا إِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» ، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» ، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُحِبُّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ مِثْلَ أَعْمَالِهُمْ (المنتخب من مسند عبد بن حميد).
وقِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرَّجُلُ يُحِبُّ القَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ؟ قَالَ: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» (صحيح البخاري).
ولما كانت أسباب المحبة تتعدد وكان حب المؤمن لغيره إنما هو بسبب عبادته لله وفعله الخير وهذه المحبة للصالحين أحد الأعمال الصالحة التي يثيب الله تعالى عليها بما شاء من الأجر والله ذو الفضل العظيم لذلك كانت محبة الصالحين محبة حقيقية لله وفي الله سبب لمرافقتهم في الجنة مع إن صاحبها مقصر في العمل الصالح.
من فضل الله تعالى علينا أن دلنا في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم على ما يدخلنا الجنة ويجعلنا من رفقاء خير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم لننال شرف صحبته في دار الكرامة التي أعدها الله تعالى للمتقين.