لغط شديد ما زال يثيره قرار حركة “حماس” باستئناف العلاقة مع النظام السوري، وليس لهذا اللغط أن يخبو، بل هو مرشح لمزيد من الاضطرام، ولا غرو، فالخطب جلل وخطوة “حماس” تلك تعد مفصلية سواء في مسارها الجهادي أو علاقاتها الإقليمية، لا تتسع هذه المساحة للإحاطة التحليلية وتغطية أبعاد هذه الواقعة، فآثرت أن أضع بين يدي القارئ جملة من الموجهات الكلية يتخذها معالم للفهم وضوابط لقراءة الحادثة، فعسى أن يخرج بقراءة رصينة لا بغي فيها ولا غلو:
أولاً: “حماس” لم تنابذ النظام السوري ولم تناصبه العداء، وقد خرجت من دمشق بعد اندلاع الثورة السورية حين لم يقبل منها النظام الحياد، فآثرت الانتصار للمبدأ على مصلحة بدت حينئذ ضئيلة، وتلك حسنة ينبغي أن تذكر لـ”حماس”.
ثانياً: اطلعت على وثيقة “حماس” الشارحة لقرارها، وقد صيغت بلغة تأصيلية وبأسلوب تحليلي مبين، غير أني لم أعثر فيها على ضرورة مصلحية ملحة تدفع الحركة إلى التقارب مع النظام السوري في هذه اللحظة على الأقل.
ثالثاً: ليس من الإنصاف وليس من الموضوعية في شيء اختزال حركة جهادية بحجم “حماس” في اجتهاد سياسي له ملابساته، لك أن تعدها كبوة ولك أن تراها من الإثم السياسي، ولكن ليس لك أن تجعلها ذريعة لإهدار بذل الحركة الناصع وجهادها التليد، وتضحياتها الباذخة، وليس لك أن تتخذ من هذه الحادثة مدخلاً للتشنيع والتحريض والإسقاط.
رابعاً: الوقائع السياسية تحاكَم في سياقاتها الزمانية والمكانية، فما ينبغي محاكمة الواقعة بالمعايير المثالية المنقطعة الصلة بسياقها، فالواقع الجيوسياسي وموازين القوى لها إكراهاتها، ولا يخفى درجات الحرج وحجم الإكراهات التي تواجهها “حماس”: لقد رمتها العرب عن قوس واحدة! والمؤامرة عليها لم تعد خافية!
خامساً: قرار المصالحة مع النظام السوري، كما أبانت الوثيقة، مؤسس على المزج بين المبدأ والمصلحة في إطار النظر إلى الحالة الجيوسياسية الإقليمية واعتبار المآلات وتوخي مصلحة القضية الفلسطينية، وقد أفضى الاجتهاد إلى تغليب المصالحة، وهو خطأ بلا ريب، ولكنه خطأ اجتهادي وحسب!
سادساً: يمكن للمرء أن يقطع أن التصالح مع النظام السوري لا يعني بحال إقراره على جرائم القتل والإبادة التي ارتكبها ولا مداهنته في الفواجع التي احتقبها ولا يزال! فإن للإخوة في “حماس” من الحس الإيماني والقيم الشرعية ما ينير بصائرهم ويحفظ ضمائرهم من الوقوع في قاع سحيق كهذا! ومن خبرهم واتصل بهم عن كثب يدرك صدق قلوبهم ورقة أفئدتهم ونفاسة معدنهم.
سابعاً: ليس في اجتهاد “حماس” السياسي ركون “إلى الذين ظلموا”، كما جاء في بعض التخريجات التي أنكرت على الحركة اجتهادها ذاك، فالركون يقتضي الميل القلبي وعقد أواصر الموالاة والتستر على قبائح النظام وتبرير بوائقه، ولم يصدر عن الحركة شيء من هذا، والأمر لا يعدو كونه علاقة وظيفية ترى قيادة الحركة أنها تدرأ مفسدة وتحقق مصلحة للمقاومة في لحظة استثنائية مليئة بإكراهات بالغة التعقيد.
تلك موجهات سبعة أضعها بين يديك، عسى أن تجد فيها ما يزيل الغبش وينير البصيرة ويحقق التوازن في النظر والاعتدال في الحكم ويجنبني وإياك الشطط، وخلاصتها: أن “حماس” أخطأت التقدير وجانبت الصواب في تحري المصلحة، وما ينبغي لهذا الخطأ الاجتهادي أن يهدر فضلها أو يلغي سابقتها ولا أن يبرر التحريض عليها وإهاجة العواطف ضدها.
“حماس” اليوم هي واسطة عقد المقاومة، وهي غرة في جبين القضية الفلسطينية، فخطؤها ذاك مغمور في بحر محاسنها.
والعاقبة للتقوى.