هناك الكثير من الأحداث التاريخية التي تحتاج إلى إعادة قراءة متعمقة بمقاربات جديدة.. فكلما زادت قدرة الأمة على فهم تاريخها زادت قدرتها على بناء مستقبلها واكتشاف مصادر قوتها.
والحدث التاريخي الذي سأركز عليه هو لقاء الإمبراطور الروماني هرقل بأبي سفيان في القدس.. وسأحاول أن أحلل مضمون التساؤلات التي وجهها له ومسار تلك الأسئلة.
أهمية الشخصية التاريخية!
لكن قبل أن نحاول دراسة وتحليل مضمون الأسئلة فإننا نحتاج إلى دراسة شخصية هرقل فهو أهم أباطرة الدولة البيزنطية، وهو يتمتع بقوة دارت حولها الكثير من القصص والأشعار، وهو يتمتع بكفاءة إدارية وعسكرية، وتمكن من استخدام الدين المسيحي لتعبئة جيشه وشعبه لتحقيق انتصار حاسم لم يكن أحد يتخيل حدوثه على الامبراطورية الفارسية.
ويشير ذلك إلى فهمه العميق للدين المسيحي، فلا يمكن أن نتخيل أنه يستخدم ذلك الدين كقوة دافعة لتحقيق انتصاره الحاسم على الفرس لو لم يكن قد حصل علي علم متعمق بهذا الدين، وفهم له، ليتمكن من استخدامه في بناء خطابه للجماهير، وإقناعها بالتضحية من أجل تحقيق النصر.
يضاف إلى ذلك أن الكنيسة قد دعمته، وتخلت عن كنوزها له ليستخدمها في حربه.
وهذا يشير إلى اعتراف الكهنة والقساوسة بأنه يمثل أهمية دينية خاصة، وأن معظم الأشعار التي تمجده انتجها كهنة الكنيسة، وقاموا بترويجها.
وهذا يعني أن كان هناك نوع من التوافق الكامل بين هرقل والكنيسة.
صحة الرواية
إن قصة لقاء هرقل بأبي سفيان رواها أبو سفيان نفسه لعبد الله بن عباس، ونقلها البخاري في صحيحه.. ولقد تم اللقاء عقب صلح الحديبية، وكان ابو سفيان معادياً للرسول صلى الله عليه وسلم، لكن ذلك العداء لم يدفعه إلى الكذب الذي يعتبره العرب عاراً ويتناقض مع مروءة الرجل وشرفه.. وبالتأكيد فإن أبا سفيان سيكون أكثر حرصاً على الالتزام بالصدق وقول الحق بعد أن أسلم.
ولقد شهد اللقاء عدد من العرب كانوا في صحبة أبى سفيان في رحلتهم التجارية إلى القدس، وقد طلب منهم هرقل أن يقفوا وراءه، وأن يكذبوه إن هو أجاب على أي سؤال من أسئلته بما يتناقض مع الحقيقة، وهذا يعني أن أبا سفيان يعرف أن هؤلاء الذين حضروا اللقاء يعرفون القصة كاملة.
وأما عبد الله بن عباس فهو عالم يتميز بالقدرة على التأكد من صحة الحقائق، وتثق الأمة كلها في صدقه وعلمه وعدالته.
وقد نقل البخاري الرواية عن رجال عدول يتميزون بالقدرة على الضبط.. لذلك فإن الرواية صحيحة ومؤكدة ومنقولة بدقة.
ما الحقيقة التي يبحث عنها هرقل؟!
وأول ما يمكن ملاحظته أن هرقل كان يعمل للوصول إلى الحقيقة.. حيث طلب من أصحاب أبي سفيان الوقوف خلفه لتكون الإجابات معبرة عن إجماع هؤلاء الحاضرين من العرب، وهو يعرف مدى أهمية الالتزام بالصدق عند العرب وأنهم يعتبرونه دليلاً على الشجاعة والمروءة، وأساس الأخلاق.
ويشير ذلك إلى ذكاء هرقل وعلمه، وأن هدفه هو التأكد من صحة مجموعة من الفروض التي وضعها مسبقاً، وأن لديه معلومات وحقائق يمكن الانطلاق منها لإصدار الأحكام.
تسلسل الأسئلة
تحليل مضمون الأسئلة يشير إلى أنه قد تم ترتيبها بأسلوب يستهدف بناء صورة كاملة للرسول صلى الله عليه وسلم في ضوء فهم للأديان وتاريخ الأنبياء، بالإضافة إلى الاستنتاج المنطقي العقلي، كما أنه تمت صياغة الأسئلة في مجموعة من المحاور من أهمها محور الأصالة الذي يضم مجموعة من الأسئلة عن نسب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من الواضح أن هرقل يسأل أقربهم نسباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل أولاً عن أقرب الحاضرين نسباً إليه، وعندما قال أبو سفيان إنه أقربهم نسباً طلب منه الإجابة على الأسئلة.
ولقد كان أبو سفيان على علم بالأنساب التي كان يحرص العرب على حفظها والتأكد منها.. وعندما أجاب أبو سفيان أن الرسول ذو نسب عظيم.. قال هرقل: إن الرسل تبعث في نسب قومها.
الأصالة والنسب الكريم
وهذا يشير إلى معرفة هرقل بتاريخ الأنبياء، كما أنه يفهم معنى الأصالة وأهميتها للنبوة والقيادة، وارتباط النبوة بالكرم والشرف الذي يتواصل عن الآباء والأجداد.
ولقد أجمعت الأمة على الاعتزاز والفخر بحفظ نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يوضح أن النطفة الشريفة تنقلت من ظهور أشرف وأعظم الرجال إلى أرحام أطهر النساء من آدم عليه السلام مروراً بإبراهيم الخليل وابنه إسماعيل حتى وصلت إلى عبد الله بن عبد المطلب ومنه إلى رحم آمنه بنت وهب.
هذه الاصالة منبع الشرف والالتزام بالأخلاق والسمات التي تؤهل للنبوة.. ومن الواضح أن هرقل كان يفهم أهمية قضية الأصالة.
أصالة الرسالة
لكن السؤال التالي كان يستهدف التأكد من أصالة المضمون والأفكار، حيث سأله هرقل: هل قال أحد منكم هذا القول قبله.. وعندما نفى أبو سفيان ذلك فسر هرقل السؤال بأنه لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلنا إنه رجل يأتي بمن قبله، بمعني أنه يكرر أقوالاً أو يردد أفكار من سبقوه.
والسؤال والتفسير يشير إلى أن هرقل يريد التأكد من أن الأمر ليس تقليداً أو نقلاً عن أحد سبقه، وأنه يريد التأكد من أصالة الرسالة كما تأكد من أصالة صاحبها.
إنها النبوة ورسالة الله
ثم سأل هرقل: هل كان من آبائه ملك؟
وعندما أجاب أبو سفيان بالنفي فسر هرقل السؤال بأنه لو كان من آبائه ملك لقلنا إنه رجل يطلب ملك أبيه.
هذا يعني أن هرقل يريد أن يتأكد أنها النبوة وليست الملك، وأن الهدف ليس السيطرة والحصول على مغريات الدنيا أو استعادة مجد الآباء.. وهو أيضاً سؤال يستهدف إثبات صحة فرض وضعه هرقل، وهو فرض تم التوصل إليه من دراسة تاريخ الأنبياء.
المصداقية
انتقل هرقل إلى محور آخر من الأسئلة يستهدف التأكد من المصداقية فسأل: هل عهدتم عليه كذباً قبل أن يقول ما قال، فأجاب أبو سفيان بالنفي.. فأبو سفيان يعرف تماماً أن مكة كلها كانت تلقبه بالصادق الأمين، وفسر هرقل هذا السؤال: بأنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
وهو سؤال يمكن أن نفسر طرحه بأنه نتج عن ذكاء هرقل وقدرته على الاستنتاج.. لكنه يمكن أن يشير إلى فهم عميق لتاريخ الأنبياء والنبوة.. وأن من يرفض الكذب بصورة شاملة ونهائية هو الأجدر بأن يصدقه الناس، وأن المصداقية من أهم متطلبات النبوة وشروطها ومصادر قوتها..
وهذا يعني أيضاً الربط بين الأصالة والمصداقية والشرف والكرم.
إنهم أتباع الرسل
وربط هرقل هذا السؤال بسؤال يريد منه معرفة نوعية الأتباع أو الأصحاب فسأل: هل يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم فأجاب: بل يتبعه ضعفاؤهم.
وفسر هرقل هذا السؤال بأن الضعفاء هم أتباع الرسل.. حيث أن الضعفاء هم الذين يتطلعون إلى تغيير الواقع، ولا يحرصون على استمرارية الوضع الراهن، بينما يرفض المستكبرون دعوات الأنبياء خوفا على مكانتهم وسيطرتهم.
ومن الواضح أن رفض كفار قريش كان نتيجة لخوفهم على الوضع الراهن الذي يتمتعون فيه بالمكانة والجاه والملكية والسيطرة، وهذا الخوف هو الذي أعمى بصيرتهم ومنعهم من اتباع الحق.
هكذا أمر الإيمان حتي يتم!
وسأل هرقل أبا سفيان: هل يزيد أتباعه أم ينقصون؟
فأجاب أبو سفيان: بل يزيدون.. وفسر هرقل السؤال بقوله: وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.
ثم أضاف سؤالاً آخر يرتبط بما سبقه هو: هل يرتد أحد منهم سخطاً على دينه بعد أن يدخل فيه؟ وعندما أجاب أبو سفيان بالنفي قال هرقل: وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشته القلوب..
ومن الواضح من أسئلة هرقل وما رتبه عليها من استنتاجات أنه يقرر حقائق يعمل للتأكد من وجودها، وتنزيلها على الواقع، من أهمها أنه لن يترك أحد هذا الدين بعد أن يشعر بجمال الإيمان يملأ قلبه.
وكان آخر سؤال في هذا المحور هو وهل يغدر؟ فنفى أبو سفيان ذلك، ورد هرقل: وكذلك الرسل لا تغدر.
هذا السؤال يؤكد صحة الفرض الذي طرحناها وهو أن تلك الأسئلة تم ترتيبها وصياغتها في بناء محكم يستهدف الوصول إلى الحقيقة، وأنه تمت صياغتها كنتيجة لدراسة متعمقة لتاريخ الأنبياء ورسالتهم، وأن هرقل كان عالماً.
محور الرسالة
بعد تلك الأسئلة انتقل هرقل إلى السؤال عن مضمون الرسالة وأهم مرتكزاتها فسأل: هل قاتلتموه؟
فأجاب أبو سفيان: نعم.. فكيف كان قتالكم إياه.. فرد أبو سفيان: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه.
وهذا السؤال يذكرني بقول ورقة ابن نوفل للرسول: إن قومه سيخرجوه.. وأنه ما جاء أحد يمثل ما جئت به إلا أوذى.
وهنا وصل هرقل إلى قمة تساؤلاته.. وهو معرفة أهم الحقائق التي تقوم عليها دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فسأل: بماذا يأمركم؟
فأجاب أبو سفيان: يقول اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
ومن الواضح أن أبا سفيان قد ركز على أهم أسس الدعوة وهو التوحيد وعبادة الله ومكارم الاخلاق.. وركز في ذلك على الصدق والعفاف وصلة الرحم.
وحرص هرقل على تكرار أنه يأمركم أن تعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً.
وهنا فاجأ هرقل أبا سفيان بقوله: “إن كان كما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، فلو أنى أعلم أنى أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت قدمه”.
وهذا يوضح أن هرقل قد عرف ببعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تلك المعرفة جاءت من معرفته بالتوراة والإنجيل، وأنه يتمنى أن يصل إليه.
لكن ما الذي يحول دون تحقيق الأمنية؟!
لو عدنا إلى قراءة موقف القساوسة من هرقل قبل انتصاره على الفرس وبعده سنجد أنهم أحاطوه بهالة من التمجيد، وإضفاء كل سمات البطولة عليه.. لكنهم تجاهلوه بعد ذلك فما سر ذلك التجاهل والعداء؟ وهل كان هرقل خائفاً منهم على ملكه، أو أنه خاف أن يقتلوه وأراد المحافظة على حياته
وماذا كان هرقل يقصد بأنه سيملك موضع قدمي هاتين.. هل يقصد بيت المقدس.. أم يقصد الإمبراطورية البيزنطية كلها؟
لكن الحقيقة المؤكدة تزداد وضوحاً وسطوعاً وهي أن هرقل قد عرف أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله الصادق الأمين، وأن دينه هو الحق، وأن الإسلام سيحرر الإنسانية من ظلم الإمبراطورية الرومانية وبطشها وقسوتها.