أجمع علماء الحديث وغيرهم من علماء الأمة على وجود بعض الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واستغل منكرو السُّنَّة هذا الإجماع وملؤوا الدنيا صياحاً وتهويلاً من شأن هذه الشبهة، والقصد من وراء ذلك التشكيك في سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليعتقد الناس سريان الوضع على الأحاديث المتداولة في كتب الحديث الصحاح والسنن وغيرها.
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
تعرَّضت السنة النبوية لاعتداءٍ آثم من شرذمة من الوضَّاعين المختلِقين لبعض الأقوال التي أرادوها أحاديث نبوية، ولمَّا كانت السُّنَّة النبوية قد وصلت إلى درجةٍ عالية في الكمال والشمول، وخلت أقوالُ النبي صلى الله عليه وسلم وأفعالُه من كلِّ ما يُكدِّر الرسالة أو يُشوِّه الصورة الصافية لمكانة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أغاظ هذا أعداء الدين من أولئك الذين آمنوا باللسان وكفروا بالقلوب، فدَسُّوا في الخفاء أحاديث مكذوبة وضعوها على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، آملين أنْ تَختلط بالثابت عنه، وساعدهم على الوضع ظروفٌ أحاطت بالأمة الإسلامية في بعض فتراتها، من خلافاتٍ سياسية، وجهلٍ بالإسلام وأهدافه ومقاصده، إلى غير ذلك من الظروف التي تراكمت فأوجدت ركاماً من نزيف الأفكار، وألصقت بالرسول صلى الله عليه وسلم زوراً وبهتاناً، فأوجدتْ رَدَّ فعل من جانب علماء المسلمين، لكن بعد أن خلَّفت آثاراً سلبية في الأمة، وما زالت تعاني من مخلَّفاتها حتى الآن(1).
معنى وضع الحديث
يُقصد بوضع الحديث نسبةُ حديثٍ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم كذبًا واختلاقًا، ويُعرف في اصطلاح المحدّثين بالحديث الموضوع؛ أي المصطنع والمكذوب على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن العلماء من اعتبره أقبح وأسوأ أنواع الحديث الضعيف، ومنهم من عدّه قسمًا مستقلًّا، وكان لوضع الحديث طريقتان: فإمّا أن يؤلّف الواضع كلامًا من نفسه ثم يختلق له إسنادًا، وإمّا أن يأخذ حِكْمَةً أو قولًا مشهورًا ويضع له إسنادًا.
وقد نشأت ظاهرة الوضع في الحديث أوّل ما نشأت بعد الفتنة المتمثّلة بمقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ فبدأ بعض الوضّاعين باختلاق أحاديث في فضل بعض الخلفاء الراشدين، إلّا أنّ الوضع لم يكن ظاهرًا ومتفشّيًا بشكلٍ كبيرٍ في القرنين الأول والثاني؛ لوجود الصحابة رضي الله عنهم، الذين كانوا متشدّدين في رواية حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم ومتحرّون للدقة في نقله وروايته(2).
وقال ابن الصلاح رحمه الله: الحديث الموضوع هو المُخْتَلَقُ المَصْنُوعُ وقيل: هو ما نُسِبَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم اختلاقاً وكذباً؛ مِمَّا لم يقله، أو يفعله، أو يُقِرُّه(3).
ونلحظ أن ابن الصلاح -رحمه الله- المتوفى سنة (643هـ) قد عرَّف الحديث الموضوع في مقدمته، وهذا يدل على أن علماء الحديث منذ القِدَم لم يغفلوا عن الوضع في الحديث.
لو كانت ظاهرة الوضع في الحديث لم يكتشفها إلا منكرو السُّنَّة، لكان لهم حق في ترويجها والاستناد إليها في إنكارهم للسُّنَّة، ولما استطاع أحد الوقوف أمامهم فيما يقولون ولكن لسوء حظهم، وفضح أمرهم، وتسجيل الخزي عليهم، أن علماء الأمة منذ البدء الواسع في تدوين الحديث وجمعه، فّطِنوا إلى وجود هذه الآفة، وحاصروها من كل جهة، وأبطلوا مفعولها تماماً، ومنكرو السُّنَّة ذرات في عالم الغيب، ليس لهم وجود إلا في علم الله تعالى(4).
جهود السلف الصالح
لقد بذل سلفنا الصالح، رضوان الله عليهم – جهوداً شاقة في التصدي لظاهرة الوضع، ونشأ علم النقد “الحديثي” من أجل تمييز الحديث النبوي من الحديث الموضوع المختلق، الذي لم يقله صلى الله عليه وسلم، بل تناول النقد الأحاديث غير الموضوعة، وصنفوها أصنافاً ثلاثة على معايير النقد الدقيق الذي أخضعوا له كل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت هذه الأصناف: الحديث الصحيح، الحديث الحسن، الحديث الضعيف.
وصنفوا الصحيح والحسن باعتبار كثرة الرواة وقلتهم للحديث الواحد صنفين آخرين: حديث مشهور (متواتر) وحديث غير مشهور (آحاد) ثم صنفوا الحديث الضعيف أصنافاً عدة، مثل: المرسل، المقطوع، الموقوف، المعضل، المرفوع، الغريب، الشاذ، المسند، المتصل، المدلس، المتروك، المنقطع، المضطرب، المنكر.. إلخ(5).
أسباب وضع الحديث
الأسباب والأغراض التي دفعت الوضّاعين لوضع الحديث والكذب والاختلاق على النبيّ صلى الله عليه وسلم كثيرة، منها:
– الاعتقاد بالتقرّب إلى الله تعالى؛ وذلك بوضع أحاديث ترغّب في طاعة الله تعالى وتحذّر من معصيته.
– الطعن في الإسلام، حيث لجأ بعض الزنادقة للكيد بالإسلام من خلال وضع أحاديث تطعن فيه وتشوّه صورته.
– الانتصار للمذاهب، سواء للمذاهب السياسيّة أو الفقهيّة.
– التقرّب من الحكّام، حيث كان بعض قليلي الإيمان يضعون أحاديث تُجاري الحكّام وأفعالهم؛ بقصد التقرّب منهم.
– طلب الرزق، حيث كان بعض الوضّاعين يضع الأحاديث بقصد التّكسب.
– طلب الشهرة، وذلك بوضع أحاديث غريبة غير موجودة عند شيوخ الحديث، فيستغرب الناس هذه الأحاديث ويقبلون على سماعها من الوضّاعين.
– الزهد والانقطاع للعبادة، وذلك أنّ بعضًا من الزهاد الذين انصرفوا للعبادة فقط، وانشغلوا عن حفظ الحديث، وكانوا يحسنون الظنّ؛ ممّا جعلهم يعدّون نقد الرواة وتجريحهم من قبيل الغيبة المحرّمة، وذلك ساعد على انتشار بعض الأحاديث الموضوعة ورواجها بين الناس.
وبعض الوضاعين كانوا كما يزورون متن الحديث يزورون السند، ويختارون الرواة – أحياناً – من المعروفين بالصدق والعدالة والضبط، وهذا ما كان يخدع بعض نقاد الحديث، لأنهم كما يعرفون الوضع عن طريق المتن، يعرفونه عن طريق السند(6).
أمارات الوضع في المتن:
– ركاكة التركيب أو الألفاظ، مما يقطع أنه لا يصدر عن فصيح عالم بصحة البيان، ومرامي الكلام، أو وجود خطأ لغوي نحوي أو صرفي.
– مخالفة الحس والمشاهدة (في غير المعجزات) كما ورد في حديث موضوع أن سفينة نوح طافت بالبيت سبعاً، وصلت متجهة إلى الكعبة.
– مخالفة الحقائق التاريخية المقطوع بها، مثل أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع الجزية على أهل خيبر عام (7هـ) والجزية شرعت بعد فتح خيبر، ولم تكن مشروعة قبلها ولا في أثنائها.
– دلالة الحديث على ثواب عظيم مرتب على طاعة يسيرة أو على وعيد شديد عقوبة على معصية صغيرة وهذه مجرد نماذج تدل على الوضع في الحديث من ناحية المتن.
أمارات الوضع في السند:
– أن يكون الراوي معروفاً بالكذب فيحكم على الحديث بالوضع.
– أن يعترف الراوي بالكذب، كنوح بن أبي مريم الذي اعترف بأنه وضع أحاديث في فضائل سور القرآن الكريم.
– أن يثبت أن الراوي روى عن شيخ ثبت أنه لم يلقه أو مات قبله، أو ولد بعده.
بطلان حجة منكري السُّنَّة
إن هذه الشبهة لا جدوى فيها لمنكري السُّنَّة؛ وذلك لأن آفة الوضع حسمها العلماء رضي الله عنهم، قبل انتهاء القرن الثامن الهجري، ووصلت إلينا محسومة، وإضافة إلى أمارات الوضع في السند والمتن ترك لنا سلفنا الصالح مصنفات عديدة جمعوا فيها الأحاديث الموضوعة منها:
– الموضوعات لابن الجوزي.
– الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني.
– تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة للكناني.
– اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة لجلال السيوطي(7).
___________________________________
(1) انظر: الآثار السيئة للوضع في الحديث النبوي وجهود العلماء في مقاومته – د. عبد الله بن ناصر الشقاري.
(2) محمود الطحان، تيسر مصطلح الحديث، 1/114.
(3) انظر: توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار، للصنعاني (2/ 60).
(4) الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية – المؤلف: عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني – 1/170.
(5) شرح الديباج المذهب في مصطلح الحديث – المؤلف: شمس الدين محمد الحنفي التبريزي – 1/25:43 بتصرف.
(6) تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي – المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي ج1، ص283.
(7) انظر: “هذا بيان للناس – الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية” – د. عبد العظيم المطعني – مكتبة وهبة – طبعة 1420هـ – 1999م – 1/ 174.