في 15 نوفمبر 2022، أعلنت الأمم المتحدة أن عدد سكان العالم وصل إلى 8 مليارات نسمة، ويمثل ذلك علامة فارقة في التنمية البشرية، وهذا النمو غير المسبوق يرجع إلى الزيادة التدريجية في متوسط عمر الإنسان بسبب التقدم في خدمات الصحة العامة، والتغذية، والنظافة الشخصية، وروائع الطب، كما أنه ناتج عن ارتفاع مستويات الخصوبة بشكل مستمر في بعض البلدان.
نعم وصل سكان العالم إلى عدد هائل، لكن ضخامة العدد تحجب وراءها تحديات كثيرة، حتى يعيش الناس في أمان وسلام، ففي خضم جائحة “كوفید”، وأزمة المناخ والبيئة، والحروب والنزاعات، وحالات الطوارئ الإنسانية، والجوع والفقر، والتسيب الأخلاقي، والجفاف الروحي، والفتن السارية، والعنصرية البغيضة، والظلم البين، فإن أرضنا وسكانها في خطر.
والمسلمون وهم ربع العالم بتعداد مليارين يتذكرون في هذه المناسبة أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أنعم على البشرية بنعمة الخلق والتكثير، وأنهم من أصل واحد، ولا يوجد من يدّعي أنه فعل ذلك من معبودات عجزاء، أو طبيعة خرساء، أو عشوائية بلهاء.
يقول رب العالمين: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) (النساء: 1)، فوصف الله تعالى نفسه بأنه المتوحِّد بخلق جميع الأنام من شخص واحد، مُعَرِّفًا عباده كيف كان مُبتدأ إنشائه ذلك من النفس الواحدة، ومنبِّهَهم بذلك على أن جميعهم بنو رجل واحد وأم واحدة، وأن بعضهم من بعض، وأن حق بعضهم على بعض واجبٌ وجوب حق الأخ على أخيه، لاجتماعهم في النسب إلى أب واحد وأم واحدة، وأن الذي يلزمهم من رعاية بعضهم حق بعض، وإن بَعُدَ التلاقي في النسب إلى الأب الجامع بينهم، مثل الذي يلزمهم من ذلك في النسب الأدنى، وعاطفًا بذلك بعضهم على بعض، ليتناصفوا ولا يتظالموا، وليبذُل القوي من نفسه للضعيف حقه بالمعروف على ما ألزمه الله له (الطبري).
كما ذكّر شعيب قومه: (وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) (الأعراف: 86)، أي: كنتم مستضعفين لقلتكم فصرتم أعزة لكثرة عددكم، فاذكروا نعمة الله عليكم في ذلك (ابن كثير)، وقال السعدي: أي: نماكم بما أنعم عليكم من الزوجات والنسل، والصحة، وأنه ما ابتلاكم بوباء أو أمراض من الأمراض المقللة لكم، ولا سلط عليكم عدواً يجتاحكم ولا فرقكم في الأرض، بل أنعم عليكم باجتماعكم، وإدرار الأرزاق وكثرة النسل.
عمران الأرض
ولن تنعم البشرية بالأمان بعددها الهائل إلا في ظل حضارة الإسلام الأخلاقية التي تقوم على إعمار الأرض (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ) (هود: 61)، أي جعلكم فيها عماراً تعمرونها وتستغلونها (ابن كثير)، وقال السعدي: استخلفكم فيها، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة، ومكنكم في الأرض، تبنون، وتغرسون، وتزرعون، وتحرثون ما شئتم، وتنتفعون بمنافعها، وتستغلون مصالحها.
إصلاح الأرض
وتقوم أيضاً على إصلاح الأرض؛ (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا) (الأعراف: 56)، فنهى الله سبحانه عن كل فساد قل أو كثر بعد صلاح قل أو كثر، فهو على العموم على الصحيح من الأقوال، وقال الضحاك: معناه لا تغوروا الماء المعين، ولا تقطعوا الشجر المثمر ضرارا، وقد قيل: تجارة الحكام من الفساد في الأرض، وقال القشيري: المراد ولا تشركوا فهو نهي عن الشرك وسفك الدماء والهرج في الأرض، وأمر بلزوم الشرائع بعد إصلاحها بعد أن أصلحها الله ببعثه الرسل وتقرير الشرائع ووضوح ملة محمد صلى الله عليه وسلم (القرطبي).
والإفساد في الأرض منه تصيير الأشياء الصالحة مضرة كالغش في الأطعمة، ومنه إزالة الأشياء النافعة كالحَرق، والقتل للبرآء، ومنه إفساد الأنظمة كالفِتن والجور، ومنه إفساد المساعي كتكثير الجهل وتعليم الدعارة وتحسين الكفر، ومناوأة الصالحين المصلحين، والمراد بالأرض هذه الكرة الأرضية بما تحتوي عليه من الأشياء القابلة للإفساد من الناس والحيوان والنبات وسائر الأنظمة والنواميس التي وضعها الله تعالى لها، ونظيره قوله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205) (ابن عاشور).
وتقول الأمم المتحدة: إن ارتفاع دخل الفرد هو المحرك الرئيس للأنماط المضرة للإنتاج والاستهلاك، وتميل البلدان ذات أعلى معدل استهلاك للفرد من الموارد المادية وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري المفسد لمناخ الأرض، إلى أن تكون ذات البلدان التي يتمتع الفرد فيها بمتوسط دخل عال، وليس تلك التي يتزايد فيها النمو السكاني بسرعة.
الخصوبة والفقر
وتتميز البلدان ذات الدخل المتدني للفرد بارتفاع مستويات الخصوبة، وقد أصبح النمو السكاني العالمي بمرور الوقت يتركز بشكل متزايد في أفقر بلدان العالم، ويمكن للنمو السكاني السريع والمستدام أن يحبط تحقيق أهداف التنمية المستدامة في هذه البلدان.
هذا رأي الأمم المتحدة، ولكن في ظل حضارة الإسلام فالسكان ثروة عظيمة لاستخراج كنوز الأرض، وزراعتها، وللبناء والتعمير والنهضة والعمل والإنتاج والصناعة والتجارة والابتكار والاختراع والبحث والعلم، ونرى الآن كيف تشجع بعض الدول الأوروبية السكان لزيادة الإنجاب، وترحب بالمهاجرين، وحضارة الإسلام بعدلها وإحسانها وفرضها للزكاة، تقتلع الفقر، ففي تفسير قول الله: (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) (البقرة: 263)، يقول ابن عاشور: إنها تنبهنا إلى شدّة عناية الإسلام بالإنفاق في وجوه البرّ والمعُونة، وكيف لا تكون كذلك وقوام الأمة دوران أموالها بينها، وإنّ من أكبر مقاصد الشريعة الانتفاع بالثروة العامة بين أفراد الأمة على وجوه جامعة بين رعي المنفعة العامة ورعي الوجدان الخاص، وذلك بمراعاة العدل مع الذي كدّ لجمع المال وكسبه، ومراعاةِ الإحسان للذي بطَّأ به جُهده، وهذا المقصد من أشرف المقاصد التشريعية.
واليوم، يعيش ثلثا سكان العالم في بلد أو منطقة حيث معدل الخصوبة مدى الحياة أقل من 2.1 ولادة لكل امرأة، وهو تقريًبا المستوى المطلوب لنمو صفري على المدى الطويل لسكان بمعدل وفيات منخفض، ومن المتوقع أن ينخفض عدد سكان 61 دولة بنسبة 1% أو أكثر بين عامي 2022 و2050، بسبب استمرار الانخفاض في مستويات الخصوبة، وفي بعض الحالات، ارتفاع معدلات الهجرة.
أرقام جديدة
تتوقع الأمم المتحدة أن تتركز أكثر من نصف الزيادة المتوقعة في عدد سكان العالم حتى عام 2050 في 8 بلدان: جمهورية الكونغو الديمقراطية، مصر، إثيوبيا، الهند، نيجيريا، باكستان، الفلبين، وتنزانيا، ومن المتوقع أن تساهم دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بأكثر من نصف هذه الزيادة المتوقعة.
وبينما استغرق نمو سكان العالم 12 عامًا ليرتفع من 7 إلى 8 مليارات، سيستغرق وصول عددهم إلى 9 مليارات حوالي 15 عامًا، حتى عام 2037، مما يشير إلى تباطؤ معدل النمو الإجمالي لسكان العالم، ووسط انخفاض معدلات النمو، من المتوقع أن يصل سكان العالم ذروته إلى حوالي 10.4 مليارات في ثمانينيات القرن الواحد والعشرين، لتبقى عند هذا المستوى حتى عام 2100، ومن المتوقع أن تتفوق الهند على الصين كأكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان في عام 2023 (1.4 بليون).
الشيخوخة
في عام 2019 بلغ متوسط العمر المتوقع عند الولادة 72.8 سنة، وهو تحسن بقرابة 9 سنوات منذ عام 1990، ومن المتوقع أن تؤدي انخفاض معدل الوفيات إلى متوسط طول عمر عالمي بحوالي 77.2 سنة في عام 2050، وأثرت جائحة “كوفيد” بالسلب فقد انخفض متوسط العمر العالمي المتوقع عند الولادة إلى 71 سنة في عام 2021.
ومن المتوقع أن ترتفع نسبة سكان العالم في سن 65 وما فوق من 10% في عام 2020 إلى 16% في عام 2050، وفي تلك المرحلة، من المتوقع أن يبلغ عدد الأشخاص في سن 65 عاماً أو أكبر في جميع أنحاء العالم أكثر من ضعف عدد الأطفال دون سن 5 سنوات، وكذلك حوالي نفس عدد الأطفال دون سن 12، فيجب على البلدان التي بها شيخوخة سكانية أن تتخذ الخطوات اللازمة لتكييف البرامج العامة، بما في ذلك إنشاء الرعاية الصحية الشاملة وأنظمة الرعاية طويلة الأجل، وتحسين استدامة الضمان الاجتماعي، وأنظمة المعاشات التقاعدية.
______________________
(*) دكتوراه العقيدة وأصول الدين.
1- يوم الثماني مليارات
https://www.un.org/ar/dayof8billion
2-World Population Prospects 2022: Summary of Results
3-https://www.un.org/development/desa/pd/content/World-Population-Prospects-2022