لا يمكن تجاوز مونديال قطر 2022 واعتبار أنه مجرد دورة رياضية تجمع فرق منتخبات العالم، تقوم ثم ينفض باليوم الختامي والذي يحصل فيه الفائز على الكأس وتوزع فيه باقي الجوائز الفردية. كان ذلك يحصل في النسخ السابقة الـ21 بلا مبالغة..أما هذه النسخة فلابد من اعتبارها نسخة استثنائية وهي كذلك امتزجت فيها قضايا الفكر والحضارة بشكل متعمد من كل الأطراف المشاركة، لاسيما الدولة المنظمة التي رسمت خارطة ثقافية لهذا الحدث العالمي، وكثفت من الحالة الثقافية بشكل واضح، بل ومبالغ ومحبوب لكثير من أبناء الوطن العربي.
فما الذي يمكن أن نقف عليه كمشاهدين فكريين لهذا الحدث من الداخل؟ هذا ما أحاول أن أسجله في هذه المقالة الموجزة.
تحطيم المستحيلات
عاش العقل العربي لأكثر من قرنين من الزمان يتملكه الشعور بالانهزامية الذاتية، والتي مظهرها أنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا، ولا يحقق إنجازًا لأنه بطبيعته كاسل بليد عاجز وجاهل، صور مالك بن نبي هذه الإشكالية وأطلق عليها مسمى الأوهام الثلاثة التي صاحبت عقل الإنسان العربي والمسلم (الإنسان المستعمَر)، وحددها في ثلاثة تمكنت من نفس الإنسان لدينا، وهي: أولًا: لسنا بقادرين على فعل شيء لأننا جاهلون، وثانيًا: لسنا بقادرين على أداء العمل لأننا فقراء، ولسنا قادرين على الفعل الحضاري لأن الاستعمار في بلادنا. وقد ركن العقل العربي على هذه الأوهام ليس لأنها تعبر عن الحقيقة ولكن لأنها أقل جهدًا وكلفة زمنية ونفسية، فالمقابل لها هو العمل والتفكير والإنجاز. وهذا يحتاج إلى جهد مضاعف لحالة الاستكانة.
وقد واجهت دولة قطر أثناء مرحلة الإعداد للحدث العالمي والمعولم – كأس العالم- هذه الفترة التي امتدت لأكثر من عشر سنوات، واجهت قطر حملات موجهة وذلك لإثناء الاتحاد الدولي لكرة القدم لسحب التنظيم منها/ إلى درجة أن ساهمت تكتلات عربية في هذه الحملات ليست على المستوى الإعلامي فقط بل المستوى السياسي – انظر بيانات دول عربية بمقاطعة قطر لما يقرب من عامين- ثم توجيه الانتقادات على كافة المستويات السياسية والدبلوماسية والحقوقية. لم يكن الهدف من هذه الحملات كما رأينا بعد ذلك إلا لغرض واحد هو ألا تتمكن قطر من تنظيم هذا الحدث[2].
وبالجهد السياسي والدبلوماسي القطري استطاعت قطر تحييد عدد من هذه الحملات، حتى وإن كان هذا التحييد شكليًا، ولكن الجهد المبذول كان كبيرًا في مقابل كسر هذه المستحيلات الثلاثة والأوهام التي تمكنت من العقل العربي طيلة عقود من الزمان. واستطاعت هذه الدولة الصغيرة الحجم والتاريخ من التفوق على دول كبيرة الحجم والتاريخ في هذه المواجهة الصفرية. إن أول ومضة هنا يمكن أن يسجلها مشاهد فكري، هو تحطيم هذه المستحيلات الثلاثة، التي كانت تصفنا بالجهل والعجز والبلادة. وحل محلها (نحن نستطيع، بل لقد فعلنا).
النموذج والخصوصية
كسرت قطر كذلك فكرة النموذج العالمي والعولمة كنماذج اهتداء لنشاط البشرية، وأن العولمة والعالمية تقتضي الاهتداء تحديدًا بالغرب (الأوروبي والأمريكي)، وابتدعت نموذجًا عربيًا في تنظيم هذا الحدث العالمي بطبعه. ومن ذلك:
تصميم الملاعب وأسماؤها
جاءت أسماء الملاعب معبرة عن الهوية العربية كما جاء ذلك تصميمها كذلك، فمثلًا استاد البيت استوحي تصميمه من بيت الشَّعر، أو الخيمة التقليدية، كما يمتاز بتصميمه الفريد الذي يجسد كرم الضيافة المشهود به للعرب على مر الزمان، والاسم ذاته البيت) دلالة أيضا على تماسك العائلة العربية التي تعتبر البيت مكانها الرئيس وهويتها وتعبير عن تماسك تلك العائلة.
-إستاد أحمد بن علي (الريان) يُجسد أبرز ملامح الثقافة والحياة القطرية، إذ تتضمن واجهته الخارجية عناصر فنية ترمز إلى تاريخ قطر التجاري، وجمال الحياة البرية وتنوعها.
– إستاد الثمامة: يمتاز بتصميمه المستوحى من القبعة التقليدية التي يرتديها الرجال في أنحاء العالم العربي والمعروفة بالقحفية.
– استاد لوسيل: استوحي تصميم هذا الملعب الاستثنائي من تداخل الضوء والظل الذي يميز مصابيح الفنار العربي التقليدي أو الفانوس.
حتى حجرات غرف ملابس اللاعبين في الملعب التي صممت على الطريقة العربية، التي تشعر جميع من يجلسون عليها بالقرب والانتماء وإزالة الكلفة والوحشة، وليست على الطريقة الغربية التي ترجح الفصل بين الجالسين. وهكذا الملاحظ أن كل مبنى استخدم في كأس العالم كانت له أبعاده وخصوصياته الحضارية العربية.
الافتتاح القرآني
مثل الافتتاح إعلانًا عن موقف الثقافة العربية والإسلامية من الآخرين (غير المسلمين) وجاء ذلك عبر الافتتاح القرآني بهذه الآية الكريمة )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا( [الحجرات:13] والتي تلاها الشاب القطري غانم المفتاح بصوته العذب.
تعبر هذه الآية عن موقف الثقافة العربية الإسلامية من الانفتاح على العالم بأعراقه وأجناسه وشرائعه، وتجعل التعارف سبيلًا لاستعادة الوحدة الإنسانية بين الشعوب، في تجاوز لمبادئ الفلسفات الوضعية القائمة على الصراع والتكالب على الثروات والتي أفرزتها وأسستها الحضارة الغربية المعاصرة، ومن ثم كان هذا الافتتاح بمثابة إعلان تدافع للحروب والصراعات التي تحيا فيها البشرية، ودعوة إلى تحقيق السلام الإنساني على الأرض.
كسر الصنمية
إن الغرب ليس هو النموذج الوحيد القابل للمحاكاة على ظهر الأرض، بل هناك نماذج أخرى أكثر إنسانية وحيوية، لو قام أصحابها بتفعيل أركانها ونظامها القيمي، وهكذا فعلت قطر، حاولت تشغيل جانب من نظام القيم الخاص بالنموذج العربي الإسلامي، فمنعت دعوات الانحراف عن الفطرة الإنسانية، ودعت أصحابها إلى العلاج، لأن المرض لا يمكن اعتباره حقًا، ولا يمكن منحه حق العدوى والانتشار، وهذه من بديهيات مبدأ الوقاية الصحية والاجتماعية. فكان رفض قطر للمثليين ورفع شاراتهم داخل الملاعب وخارجها، دلالة أخرى على صلاحية النموذج الذي تدعو له، صلاحيته مع الفطرة السوية، ومع حركة الإنسان الطبيعية في الكون التي تنطلق من مبدئية “)وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ( [الليل:3]. فالكون قائم على هذه الازدواجية، والانحراف بجعل الازدواجية أحادية أو واحدية – كشعار المثليين- هو خروج عن هذا النظام الإلهي للطبيعة والكون.
الأخلاقية لا العولمة
تنحاز الأنظمة السياسية في العالم العربي غالبًا إلى العولمة بكل ما تلقيه إلينا، ومن ثم فهي لا تبالي بعنصر الأخلاقية إلا قليلًا، في هذا الحدث الاستثنائي قدمت قطر نموذجًا مغايرًا حيث أولت الأخلاق على العولمة، فاختفى العري تمامًا في شوارع مدن المونديال وفي ملاعبه ومدرجاته، كما اختفى احتساء الكحوليات، وسادت حالة من الأخلاقية بين الجماهير وزوار قطر الذي تجاوز عددهم تقريبًا مليون ونصف في شهر تقريبًا وعلى قطعة أرض صغيرة، بل لم نشاهد حالات من الشغب الجماهيري والتي كانت معهودة من بعض الجماهير – الجماهير الإنجليزية على سبيل المثال- إن المناخ الأخلاقي العام ونشر قيم التعاون والاحترام والتقدير المتبادل من المنظمين والمتطوعين كان له أثره الكبير لا شك في ذلك، فالدعم النفسي والتعاضد للأخلاق الحميدة مثلا عدوى اجتماعية بالغة الأثر في هذا الحدث التاريخي.
منتخب المغرب.. مؤسسة العائلة
مثلت ظاهرة منتخب المغرب، ومضة حضارية أخرى، ليست فقط على مستوى الإنجاز الكروي التاريخي الذي حققه في هذه النسخة من كاس العالم ووصوله إلى المربع الذهبي في سابقة لدولة عربية وأفريقية والانتقال من التمثيل المشرف إلى نحن نستطيع إلى نحن فعلنا. ولكن ومضته الحضارية تبدو كما كانت في وجهة نظر كثير من المراقبين الفكريين العرب والغربيين كذلك في إعلانه لحياة مؤسسة العائلة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، حيث كان الاحتفال الدائم عقب كل فوز وفي أرض الملعب احتفالًا عائليًا بين لاعبي منتخب المغرب (بوفال وحكيمي وغيرهم) وأمهاتهم وآبائهم وزوجاتهم وأبنائهم. وقد عزت صحيفة الجارديان البريطانية[3] هذا الاحتفاء العائلي إلى الإسلامي وكتبت في تقريرها (افتخار المغاربة بالإسلام يجب أن يلهمنا جميعًا) وأوضحت في ذلك المظاهر العائلية والإسلامية للاحتفال (السجود).
فلسطين.. الحاضر الغائب
مثل الحضور الفلسطيني ومضة حضارية أخرى، إذ أن الحدث العالمي لا يمنعنا من إخفاء قضايانا الوطنية والإسلامية وإعلانها كقضية مركزية للعرب والمسلمين بل وللإنسانية الشريفة، وبينما كانت بعض الدول العربية الكبرى تمنع علم فلسطين في ملاعبها، أصبح علم فلسطين مركزيًا في شوارع الدوحة ومقاهيها وسوق واقف وكتارا والملاعب بل وفي أرضية الميدان كما كان يفعل منتخب المغرب عقب كل انتصار يحققه بحمل العلم الفلسطيني داخل الملعب.
عربيًا.. الرياضة هزمت السياسة
فرقت السياسة العرب، وللأنظمة السياسية الدور الأكبر في هذه الفرقة، لكن ما حدث على أرض المونديال في قطر يمكن إعطائه عنوان واحد (الرياضة هزمت السياسة عربيًا) وبداية ذلك في كلمة الافتتاح والتي أعلن فيها أمير قطر أن هذا المونديال هو (مونديال العرب) وقال في كلمته (من قطر، من بلاد العرب، نرحب بالجميع في بطولة كأس العالم 2022).
ثم كان التلاحم الواضح والتآزر بين الجماهير العربية في مباريات المنتخبات العربية: السعودية، وتونس والمغرب، والذي كان سببا في كثير من النتائج الإيجابية لهذه المنتخبات، كما رأينا كافة الأعلام العربية في مدرجات المنتخبات العربية في إشارة إلى الأخوة العربية، والرغبة في وجود مشروع عربي يوحد الإنسان العربي حوله، بل كان الوجود العربي في قطر أحد العوامل الرئيسة لخروج نسخة المونديال بهذه الاستثنائية والجمالية الحضارية العربية والإسلامية.
الحقيقة أن هناك ومضات عديدة يمكن أن يعددها آخرون بحسب مشاهدتهم، وأدعو من هنا إلى إصدار كتاب كامل عن المونديال وتحدياته وأنشطته الثقافية والحضارية وتداعياته الإنسانية والأخلاقية.
_________________________________
[1] أستاذ أصول التربية المساعد- جامعة دمياط.
[2] على سبيل المثال نشر موقع ويكيبيديا جانب هذه الانتقادات منها: (إن فكرة تنظيم البطولة في نوفمبر مثيرة للجدل لأنها ستتداخل مع جداول المواسم العادية لبعض البطولات المحلية في جميع أنحاء العالم. لاحظ المعلقون أن الاشتباك مع موسم عيد الميلاد من المحتمل أن يتسبب في اضطراب، في حين أن هناك مخاوف بشأن مدى قصر البطولة.[51] قال عضو مجلس الفيفا ثيو زوانزيغر، إن منح كأس العالم 2022 لدولة صحراوية خطأ صارخ. قال فرانك لوي، رئيس اتحاد أستراليا لكرة القدم، إنه إذا تم نقل كأس العالم 2022 إلى نوفمبر سيحصل خلل في جدول الدوري الأسترالي، فسوف نطلب تعويضات من الفيفا.[53] صرح ريتشارد سكودامور، الرئيس التنفيذي للدوري الإنجليزي الممتاز، بأنهم سينظرون في اتخاذ إجراء قانوني ضد الاتحاد الدولي لكرة القدم لأن هذه الخطوة ستتعارض مع برنامج مباريات عيد الميلاد ورأس السنة الشهيرة في الدوري الإنجليزي الممتاز. في 19 مارس). انظر الرابط التالي:
[3] انظر هذا التقرير في الرابط التالي: https://www.theguardian.com/football/2022/dec/14/world-cup-2022-briefing-moroccos-pride-in-islam-should-inspire-us-all?fbclid=IwAR30eBixglyh2mljc83iAivXi4ATngdRAgE5qS5QkZGfhKqpu6ArCLvNsjY