لم يعد الإدمان قاصراً على تعاطي المخدرات، ففي العصر الرقمي ظهر إدمان مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة بين الشباب والأجيال الجديدة، التي نشأت وتشكل وعيها الثقافي مع الإنترنت والهواتف الذكية، وتنوعت الإحصاءات والدراسات التي ترصد الظاهرة، لكن الثابت أن أكثر من 90% من الشباب العالمي يستخدمها، والمراهقون يقضون ما يقرب من 4 ساعات على تلك المواقع، ويلمسون شاشاتهم حوالي 2600 مرة يومياً، وتتشكل رؤيتهم للعالم ولذاتهم، في أغلب الأحيان، من خلال تفاعلهم معها.
في المجتمع الأمريكي، يقدر علماء النفس أن ما بين 5 – 10% من الأمريكيين يستوفون معايير إدمان وسائل التواصل الاجتماعي، ومن مظاهره: الإفراط في الاستخدام، وارتباط ذلك بالحالة المزاجية، وضعف السيطرة الذاتية، وانعكاس ذلك على باقي الأنشطة الحياتية كالتغذية والعلاقات الاجتماعية والصحة البدنية والعقلية وجودة النوم وعدد ساعاته.
وبحسب العلماء، فإن هذا الإدمان يحفز على إفراز هرمون الدوبامين؛ مما يُشعر الشخص بالسعادة، فتلك المنصات الاجتماعية تتشابه تأثيراتها من الناحية العصبية مع استخدام العقاقير أو المقامرة، فالمشاركات والإعجابات تثير منطقة المكافأة في الدماغ، وينتج عن ذلك تفاعلات كيميائية.
والإدمان على مواقع التواصل إدمان نفسي وجسدي، تشير دراسة في جامعة هارفارد إلى أن كشف الشخص عن ذاته على مواقع التواصل يُضيء نفس الجزء من الدماغ الذي ينشط عند تناول مادة مسببة للإدمان، وتؤثر منطقة المكافأة في الدماغ ومساراتها الكيميائية على القرارات والأحاسيس، وأن الشخص عندما يتلقى إشعاراً بالإعجاب فإن الدماغ يفرز الدوبامين فيشعر الفرد بالسعادة.
لعل هذا ما جعل الكثير من الأشخاص مدفوعين للحديث عن أنفسهم، وتسريب الكثير من الأخبار والصور والفيديوهات عن حياتهم الشخصية، وتشير الدراسات إلى أن الأشخاص على مواقع التواصل يتحدثون عن أنفسهم حوالي 80% من الوقت، وأن أغلب هذه المواد تدور حول التباهي والتفاخر وإظهار السعادة والتميز واللحظات الجميلة.
النقمة على الذات والجسد
وتنامت ثقافة المقارنة بشكل غير مسبوق، على وسائل التواصل، وهو انعكس على تدني احترام الذات، وتزايد الهوس بالجسد والمظهرية، فقدرة الفرد على إنشاء ملف للتعريف بشخصه، ووجود قائمة بالاتصال عبر الإنترنت، وعرض المعلومات الشخصية باستمرار وتحديث، وإتاحة التفاعل، جعل ثقافة المقارنة متزايدة، وأصبح الشخص أكثر ميلاً لاستخدام الآخرين كمصادر للمعلومات، وكمعايير للنظر للذات وتقييمها، واكتشاف حجم التباين بينه وبين الآخرين.
يؤكد علماء الاجتماع والنفس أن المقارنة تزداد عندما يكون بُعد المقارنة وثيق الصلة بالذات، ويكون هدف المقارنة مشابهاً للذات، وتلك الثقافة ذات تأثير سلبي في كثير من الأحيان، إذ ينتج عنها تدني احترام الذات، أو الإحساس بالتفاخر والكبر، أو النقمة على شريك الحياة، أو تنامي ظاهرة الحسد والحقد وعدم الرضا وفقدان السعادة.
وقد سهلت مواقع التواصل ثقافة المقارنة، وأوصلتها إلى غرف النوم، وبات الشخص قبل نومه يعقد المقارنات بين حاله والآخرين، وبين جسده والآخرين، ويقارن بين شريك حياته والأشكال الجذابة المفعمة بالحيوية والنشاط على مواقع التواصل، إذ تتيح استهلاكاً سلبياً للمعلومات الشخصية التي يمررها الأشخاص عن أنفسهم، وربما هذا ما دفع الكثير من النساء إلى ما يمكن تسميته بـ«الشراء القهري» فتنامت النزعة الاستهلاكية لمساحيق التجميل والمكملات الغذائية والملابس المثيرة.
لكن الواقع يشير إلى أن تلك الصورة الجذابة الطافحة بالحيوية ليست حقيقة، ولكنها مصطنعة ومبالغ فيها، ومن ثم يصعب الوصول إليها أو تحقيقها، وهو ما يجعل مخرجات المقارنة ذات حمولات عالية من الإحباط والكآبة، وتشير دراسات أنه كلما زاد عدد الأفراد الذين ينخرطون في أنشطة وسائل التواصل الاجتماعي؛ زاد شعورهم بالحسد أو الاكتئاب وتدني مستويات احترامهم لذواتهم.
فمع تلك المواقع، تنامت ثقافة المظهر، وحدث ارتباك حول مفهوم الجمال، إذ كاد أن تخصص له معايير ثابتة، وذات ارتباط بالمظهر وليس بذات الإنسان ومواهبه وطاقته، والأخطر أن ما يشاهده الشخص ويعقد المقارنة على أساسه مثالي للغاية، وخضع لبرامج تحسين إلكترونية، كما أنه يركز عل نقاط القوة، ويخفي الضعف والعيوب والقصور، كما أنه يحبس لحظة بعينها، ويصدرها على أنها هي الحياة أو الشخصية، وليس كونها لحظة عابرة، كما أن الفرد على مواقع التواصل يسعى لإخفاء ضعفه وإخفاقاته، ويستبدل قوته وجاذبيته بها، فيظن الآخرون أن تلك اللحظة العابرة هي نمط الحياة الدائم.
ومن الناحية النفسية، فعدم الرضا عن الجسد، ومشاعر الحسد تجاه الآخرين، سبب رئيس للاضطرابات، ولعل الإناث هن من يشعرن بعدم الرضا عن الجسد من خلال استخدام مواقع التواصل، وتشير دراسات إلى أن تصورات الفتيات لصورة الجسد تتأثر بقوة أكبر وسلبيًا بوسائل التواصل؛ لأنهن يتفاعلن مع المحتوى المرتبط بالجسم ويستثمرن فيه أكثر من الذكور.
تزايد الطلاق
مع تنامي المظهرية وثقافة المقارنة، حضر الجسد، فمشاهدة الرياضيين وذوي الأجسام القوية المتناسقة والقوام الممشوق وحضور المقارنة، تحولت حياة الشخص إلى معاناة، إذ إنه يرفض وجهه وملامحه وجسده، ويشعر بأن ذاته وروحه تم تركيبها على الجسد والشكل الخاطئ، فإدراك الشخص لجسده وخِلقته باتت محل أزمة كبيرة للإنسان مع نفسه وتنتقل المقارنة والنقمة من الذات إلى شريك الحياة، وهو أحد الأسباب الكامنة وراء تزايد ظاهرة الطلاق في المجتمعات الحديثة.
فقد أظهرت دراسة أن الشخص كلما ازداد استهلاكاً لمواقع التواصل؛ كان أكثر مراقبة لشريك حياته، فتنمو الغيرة وسوء الفهم، فهناك ارتباط بين قوة العلاقة الزوجية في كثير من الأحيان ومعدلات استهلاك واستخدام مواقع التواصل.
وتشير إحصاءات إلى أن مواقع التواصل وراء أكثر من 15% من حالات الطلاق في المجتمع الأمريكي، وهي نسبة متصاعدة في المجتمعات العالمية، فثقافة المقارنة تدفع الشخص للنقمة على شريك حياته، كما أنها تستهلك أكثر من 3 ساعات من الفرد يومياً، فيصبح الوقت المتبقي للأسرة قليلاً، وتحضر فيه المقارنات السلبية، كما أن مواقع التواصل تسهل التواصل بين الجنسين، فتنشأ علاقات قد تحقق إشباعاً محرماً؛ ينعكس على تماسك الأسرة واستمرارها، كما أن مساحة البوح والتنفيس التي تتيحها مواقع التواصل جعلت خلافات الأسرة مكشوفة في العالم الافتراضي؛ بل محل تفاعل وتقديم للنصائح والإرشادات التي يعجل بعضها بنهاية تلك الرابطة المقدسة.