إن معاني الحج لا ينضب معينها، ولا يستطيع كاتب أو مقال أو مفكر أن يحصي تلك المعاني التي تزخر بها تلك الفريضة الخامسة في عالم الإسلام والقرآن، نحاول فيما يلي أن نقف على بعض الومضات القرآنية لفريضة الحج وخلجات تلك الفريضة في واقع المسلمين؛ وجدانًا واجتماعًا ونظمًا.
1- الحج أشهُرٌ معلومات:
إن ميقات الحج لا يتعلق بمن توفرت له سبل الاستطاعة ونوى السفر إلى مكة لأداء مناسك الحج المكانية والزمانية، لكن ميقات الحج يتعلق بكل مسلم في أي مكان في مكة أو غيرها من بقاع الأرض، وهذا التعلق إنما يكون بالتهيئة لاستقبال تلك الأشهر المعلومة «بالإحرام»، وخاصة عند هلال شهر الحج ذي الحجة، الميقات الخاص بأداء هذه الشعيرة.
إن إحرام المسلم جائز في هذه الشهور –شوال، ذو القعدة، عشر ذي الحجة- والإحرام يعني التهيؤ للأداء والاستقبال لهذه الفريضة العظيمة، وهذا التهيؤ والاستقبال لا يتعلق كما ذكرنا بالمستطيع الذي نوى السفر لأماكن المناسك التي شرعها الله تعالى وجسدتها النبوة على طريقة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، إن التهيؤ مطالب به كل مسلم في كل بقاع الأرض أن يستشعر عظم تلك الفريضة وحقوقها في النفس والمجتمع والعالم.
إن الحج -كما سائر العبادات- لله تعالى، وقد سبق الله تعالى التذكير للعباد بذلك الحق: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) (آل عمران: 97)، وأول معاني هذا الحق هو التخلص من كل ما يعكر صفو هذا الخلوص لله تعالى، فلا يمكن الإقبال أو استقبال أشهر هذه الفريضة العظيمة والنفوس ما زالت يطغيها الكره والحقد في علاقتها بالناس، ولا يمكن الإقبال أو استقبال أيام هذه الفريضة وحقوق الناس متعلقة برقابنا أمام الله تعالى لم نؤدها حق تأديتها أو ماطلنا في أدائها، ولا يمكن الإقبال أو استقبال تلك الفريضة وأوصال المسلم مقطعة بين رحم الوالدية ورحم الأخوة في الدين.
إن أول متطلبات الإقبال أو استقبال هذه الأشهر الحرم هو التجديد الإيماني لنفس المسلم أياً كان مكانه وموقعه الجغرافي في مكة أو قاصدًا إياها أو جالساً في بيته لم يستطع السفر والأداء، إن كل الأمة مطالبة بهذا التجديد الإيماني كل عام، وما أعظم أن يكون للأمة مغتسل بارد كل عام مما يعتريها من عوامل العطب والران الذي يصيب حركة الإنسان والمجتمع، فيغتسل من هذه الأشهر الحرم ويشرب من عطائها الفياض الذي شرب منه إبراهيم عليه السلام وفاض علينا إلى يوم القيامة بتعظيم هذه الأشهر وتلك الفريضة.
2- فلا رفث ولا فسوق ولا جدال:
بالإضافة إلى التجديد الإيماني، هناك أيضاً التجديد الاجتماعي للأمة، وذلك بنبذ كل صور الفسوق والعصيان بين مكونات الأمة أفرادًا وجماعات، فلا يمكن لأمة تجتمع من كل الأجناس والأعراق، يربطها رباط الدين وإخوة الإيمان، أن ينزع الشقاق والفسوق بين أبنائها، وإن كان الرفث (جماع الرجل لزوجته) هو تجنب المباح، فإن الفسوق هو التطهر من المحرم، والفسوق يبدأ من شتم المسلم (تبادل السباب) إلى الاقتتال المحرم والمجرم بين المسلمين، إن انتقال الأمة من تجنب المباح (فرديًا) إلى التطهر من المحرم (الفسوق) هو أمر واجب على كل الأمة التي تؤمن بهذا الإله، وبهذا القرآن، وبهذا النبي، وبهذه الفريضة العظيمة، وإن استمرار الفسوق في الأمة في الأشهر المعلومات هو تطاول على الله تعالى، والقرآن، والنبي، والحج.
3- وأذن في الناس بالحج يأتوك:
الأمة جميعها مطالبة باستجابتين لهذا النداء العظيم وتلبية لوعد الله وإنجازه؛ استجابة قلبية واستجابة جسدية، الأولى عامة وواجبة ولازمة، والثانية مشروطة بالاستطاعة، وعلى ذلك فإن الأمة جميعها مطالبة بالاشتراك في تلبية هذا النداء وتحقيق وإنجاز الوعد الإلهي لإبراهيم عليه السلام.
إن الاستجابة القلبية فردية، وهذه عامة على كل مسلم سواء حضر الحج في مكة أو لم يحضر بجسده، ولكنه حضر بقلبه في بيته أو مصنعه أو جامعته أو مدرسته، أما متطلبات هذه الاستجابة فتتمثل في: التوحيد الخالص لله تعالى، الطهارة الذاتية القلبية، التلبية القلبية قبل التلبية الجسدية، تعظيم الشعيرة، تعظيم حرمات الله، الاجتناب القلبي لكل أنواع «الرجس»، تقوى القلوب، وجل القلب، الصبر البدني والوجداني، الشكر، التقوى، الإخبات، التعظيم لجلال الله، معرفة الله حق معرفته، ذكر الله.
4- لا بناء في منى:
إن الحج عمل جماعي وقصدي، لا سبيل فيه إلى الفردية أو العشوائية، فالطواف عمل جماعي، والوقوف على عرفات عمل جماعي، وذكر الله في الحج عمل جماعي، وقد ذكر الله أعمال الحجيج بصيغة جماعية؛ (لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (الحج: 26)، (لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) (الحج: 28)، (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) (الحج: 28)، (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج: 29)، وهكذا.
إن الحج يجسد جماعية هذه الأمة، بل يحقق مفهوم الأمة الواحدة التي لا تتجنس بجنسية، أو تنتسب إلى عرق، أو تلتزم مشروعاً اقتصادياً مادياً، ولكن الأمة هنا بمعناها الإيماني والرابط الذي جمعها هو رباط الإيمان والتوحيد، والأمة في هذا التجسد الفريد الذي لا يناظرها فيه أمة من الأمم، مطالبة بالبحث في أحوالها وشؤونها العامة والخاصة، وشؤون الإسلام، والبلاغ المبين للناس، وتحقيق الشهود والعدل الحضاري والوسطية، وكل مقومات الأمة الواجبة والمفقودة، على الأمة أن تبحث في هذا التجمع الفريد والدوري عن تحقيق مقاصد وجودها وشهودها.
من إبداعات سنن النبوة في الحج النهي عن البناء في منى؛ «لا بناء في منى»، حيث يمكث الحجيج في منى طوال ليالي التشريق، يجتمع في هذا المكان كل أجناس الأمة وأعراقها ومكوناتها، لا لشيء إلا بغرض المناقشة في شؤون الأمة وأحوالها والتعارف فيما بينهم، والتفكر في قضاياها، ومدارسة أمورها والبحث في حلول لمشكلاتها.
إن الحج فرصة عظيمة لاستعادة مفهوم الأمة الواحدة، والقضاء على عناصر الفرقة والتمذهب والقطيعة والشقاق، ودعم مفهوم الفلاح القرآني في مقابل هيمنة مفهوم الخلاص (اللاهوتي) على الحجيج، وتفعيل مبدئية المساواة والتكافل بين أبناء الأمة، واستعادة قيم «لِتَعَارَفُوا» في كل صورها وأعمق معانيها.
إن الأمة ممثلة في مفكريها ومثقفيها بل وعوامها، لا بد أن يتدارسوا كافة الأخطار التي تحدق بهم، والمعيقات التي تقف في سبيل وحدتهم، وعناصر التغريب والعلمنة التي تغلغلت في برامجهم الإعلامية والثقافية والتعليمية، وطغيان القيم المادية، واستفحال نزعة الاستهلاك في قطاع من الأمة، وانتشار الفقر في قطاعات وأقاليم أخرى، إن كل هذه القضايا والموضوعات هي عين مقصدية اللقاء والالتقاء السنوي للأمة في هذا المشعر الحرام والمكان الحرام والشهر الحرام.