لن نقف عند مقالات الرد على مغالطات وشبهات رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بحق الصحابة (رضوان الله عليهم)، في ما يخص الوقائع التاريخية الحقيقية لمعركة صفين، وقضية رفع المصاحف والتحكيم، واعتماده على الروايات المكذوبة والمغرضة التي شوهت تاريخ تلك الأحداث، وأساءت لسِير الصحب الكرام والآل الأطهار (رضوان الله عليهم جميعاً)، وإنما وجب البحث والتقصي ومقاربةُ الروايات التاريخية المتعددة حول حادثة غدير خم، والتي خطب المالكي خطبته في جمعٍ عُقد في ذكراها، أيّ حادثة “خطبة الرسول الكريم ﷺ في منطقة غدير خم”، فهو اعتبر خطبته ﷺ في غدير خم بمثابة تهيئة لبيعة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) في خلافة المسلمين وقيادتهم من بعده، وقال المالكي: “ كثيرة هي الجهود التي بُذلت لكي ننسى الغدير ولم ننساها أبداً، فالأمة تفاعلت مع الدم ومع الشهادة ومع الأحداث، فكانت ثورة الحسين شامخة، غير أنهم استطاعوا أن يُغيّبوا عنا أهم عيد، وأهم حدث في تاريخ المسلمين، وهو عيد الغدير الذي هو عيد الله الأكبر، وهو التأسيس للمسيرة الإسلامية بعد رسول الله صلى الله عليه وآله” انتهى كلامه!!
فما هي قصة خطبة غدير خم؟ وماذا قصد رسول الله ﷺ في كلامه آنذاك؟
1. غدير خم:
هو موقع بين مكـة والمدينة بالجحفة (معجم البلدان، 2/289)، ويقع شرق رابغ بما يقرب من 26 كيلاً، ويسمونه اليوم الغربة (على طريق الهجرة، عاتق البلاد، ص 61)، ويذكر أنـه في هذا الموقع خطب النبي ﷺ في الناس، وذكر فضل علي رضي الله عنـه، واتخذ الشيعة هذه الحادثة أساساً يعتمدون عليه في تشيعهم الغالي له من جهة، واعتمدوا عليها في أحقية علي بالخلافة من جهة أخرى، فأعطوا لهذه الحادثة من الأهمية ما لم يعطوه لغيرها في عصر النبوة (أثر التشيع على الروايات التاريخية، عبد العزيز محمد نور ولي ، ص 299)، حتى ألف فيه كتاب من أحد عشر مجلداً، وهو كتاب الغدير ملأه مؤلفه بالأحاديث الموضوعة والضعيفة.
والصحيح ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه: أنه قال: قام رسول الله ﷺ فينا خطيبـاً بماء يدعى خُمّـاً بين مكة والمدينـة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكَّر ثم قال: «أما بعد؛ ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسـول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به»، فحث على كتاب الله ورغَّب فيـه ثم قال: «وأهل بيتي؛ أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي». قال له حصين ـ أي: الراوي عن زيد بن أرقم ـ: ومن أهل بيتـه يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟
قال: نعم، ولكن أهل بيته من حُرِم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: هم ال علي، وال عقيل، وال جعفر، وال عباس، قال: كل هؤلاء حُرِم الصدقة؟ قال: نعم (مسلم ، رقم 2408). وجاء عند غير مسلم كالترمذي (سنن الترمذي ، رقم 3713)، وأحمد (مسند أحمد ، الموسوعة الحديثية ، رقم 670)، والنسائي في الخصائص (خصائص علي، رقم 79)، والحاكم (المستدرك، 3/110)، وغيرهم جاءت بأسانيد صحيحة عن النبي ﷺ: «من كنت مولاه فعلي مولاه (حقبة من التاريخ ، ص 182)».
وأما الزيادات الأخرى كقوله: «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه». فهذه الزيادات صححها بعض أهل العلم، والصحيح أنها لا تصح، وأما زيادة: «انصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار»، فهذه زيادة مكذوبة عن النبي ﷺ (السلسة الصحيحة للألباني ، رقم 1750).
2. ما أسباب خطبة النبي المصطفى ﷺ في غدير خُم؟
وخطبة النبي ﷺ في غدير خم لها سبب وجيه، فعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: بعث النبي ﷺ علياً إلى خالد بن الوليد في اليمن ليخمّس الغنائم ويقبض الخُمس، فلما خمّس الغنائم كانت في الغنائم وصيفة هي أفضل ما في السبي، فصارت في الخُمس، ثم إن علياً خرج ورأسه مغطى وقد اغتسل، فسألوه عن ذلك، فأخبرهم أن الوصيفة التي كانت في السبي صارت له فتسرّى بها. فكره البعض ذلك منه، وقدم بريدة بن الحصيب بكتاب خالد إلى النبي ﷺ، وكان ممن يبغض علياً، فصدّق على كتاب خالد الذي تضمن ما فعله علي، فقال له النبي ﷺ: «لا تبغضه فإن له في الخُمس أكثر من ذلك» (مجمع الزوائد، 9/127)، فلما كانت حجة الوداع رجع علي (رضي الله عنه) من اليمن ليُدرك الحج مع النبي ﷺ وساق معه الهدي (مسلم ، رقم 1281)، وقد تعجل علي (رضي الله عنه) ليَلقى الرسول ﷺ بمكة، واستخلف رجلاً من أصحابه على الجند، فكسا ذلك الرجل الجند حللاً من البزّ (الثياب)، والذي كان مع علي، فلما دنا الجيش من مكة خرج علي ليلقاهم، فإذا عليهم الحلل، فقال لنائبه: ويلك ما هذا قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس، قال: ويلك، انزع قبل أن تنتهي به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فانتزع الحلل وردها إلى البزّ، فأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم علي (البداية والنهاية (5/95) و(السيرة النبوية، ابن هشام 4/259)، فلما اشتكى الناس علياً قام رسول الله ﷺ في الناس خطيباً.
قال ابن كثير: إن علياً (رضي الله عنه) لما كثر فيه القيل والقال من ذلك الجيش بسبب منعه إيّاهم استعمال إبل الصدقة، واسترجاعه الحلل التي أطلقها لهم نائبه لذلك، والله أعلم، لما رجع الرسول ﷺ من حجته، وتفرغ من مناسكه، وفي طريقه إلى المدينة؛ مرَّ بغدير خم، فقام في الناس خطيباً، فبرأ ساحة علي (رضي الله عنه)، ورفع من قدره، ونبَّه على فضله، ليُزيل ما وقر في قلوب كثير من الناس (انظر: البداية والنهاية 5/95).
إن النبي ﷺ أخّر الكلام إلى أن رجع إلى المدينة، ولم يتكلم، وهو في مكة في حجة الوداع أو في يوم عرفة، وإنما أجل الأمر إلى أن رجع، فهذا يدل على أن الأمر خاص بأهل المدينة؛ لأن الذين تكلموا في علي رضي الله عنه من أهل المدينة فهم الذين كانوا مع علي في الغزو، وغدير خم في الجحفة وهي تبعد عن مكة تقريباً مئتين وخمسين كيلومتراً، والذي يقول: إنه مفترق الحجيج؛ فهذا غير صحيح، لأن مجتمع الحجيج مكة، فلا يكون مفترق الحجيج بعيداً عن مكة أكثر من مئتين وخمسين كيلومتراً أبداً، فإن أهل مكة يبقون في مكة، وأهل الطائف يرجعون إلى الطائف، وأهل اليمن إلى اليمن، وأهل العراق إلى العراق، وهكذا كل من أنهى حجه، فإنه يرجع إلى بلده، وكذلك القبائل العربية ترجع إلى مضاربها، فلم يكن مع النبي ﷺ إلا أهل المدينة، ومن كان على طريق المدينة فقط، وهم الذين خطب فيهم النبي ﷺ، والاختلاف بين أهل السنة والشيعة في مفهوم قول النبي ﷺ لا في الثبوت، فالشيعة يقولون: من كنت مولاه فعلي مولاه، أي: من كنت واليه فعلي واليه. وإن أهل السُنّة يقولون: إن مفهوم قول النبي ﷺ من كنت مولاه فعلي مولاه أيّ: الموالاة التي هي النصرة والمحبة، وعكسها المعاداة، وذلك لأمور:
– كلمة مولاه تدل على معاني متعددة. قال ابن الأثير: المولى يقع على الرب والمالك والمنعم والناصر والمحب والحليف والعبد والمعتق وابن العم والصهر (النهاية في غريب الحديث، 5/228)، كل هذه تطلق العرب على كلمة مولى.
– الحديث ليس فيه دلالة على الإمامة؛ لأن النبي ﷺ لو أراد الخلافة لم يأتِ بكلمة تحتمل هذه المعاني التي ذكرها ابن الأثير، والنبي ﷺ هو أفصح العرب، ولكان يقول: علي خليفتي من بعد، أو عليّ الإمام من بعدي، أو إذا أنا متُّ فاستمعوا وأطيعوا لعليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه)، ولكن لم يأت النبي ﷺ بهذه الكلمة الفاصلة التي تنهي الخلاف إن وجد أبداً، وإنما قال من كنت مولاه فعلي مولاه (حقبة من التاريخ ، ص 185).
– قال الله تعالى: ﴿مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ *﴾ [الحديد: 15]؛ فسماها مولى لشدة الملاصقة مع الكفار والعياذ بالله.
– الموالاة هي وصف ثابت لعلي (رضي الله عنه) في حياة رسول الله ﷺ، وبعد وفاته، وبعد وفاة علي (رضي الله عنه)، فعليّ كان مولى المؤمنين بعد وفاة رسول الله ﷺ، وهو مولى المؤمنين بعد وفاته رضي الله عنه، فهو الان مولانا كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المائدة: 55]. وعلي رضي الله عنه من سادة الذين آمنوا.
– قال الإمام الشافعي (رحمه الله) عن حديث زيد: يعني بذلك ولاء الإسلام كما قال الله تعالى: (النهاية في غريب الحديث، 5/228) ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ*﴾ [محمد: 11]. فالحديث لا يدل على أن علياً رضي الله عنه هو الخليفة بعد رسول الله ﷺ، وإنما يدل على أن علياً من أولياء الله تبارك وتعالى، تجب له الموالاة وهي المحبة والنصرة والتأييد (حقبة من التاريخ ، ص 187).
وعموماً، فإن هذه الخطبة التي خطبها النبي ﷺ في غدير خم أراد بها تبرئة ساحة سيدنا علي (رضي الله عنه)، ورفع مكانته، والتنبيه على فضله ليزيل ما كان وقر في نفوس الناس من أصحابه الذين كانوا معه في اليمن، وأخذوا عليه بعض الأمور، والرسول ﷺ لم يرد أن يفعل ذلك أثناء موسم الحج؛ لأن الحادثة رغم انتشارها بقيت محدودة في أهل المدينة، كما أنه لم يؤخره حتى وصوله إلى المدينة، حتى لا يُمكن المنافقين من استغلال مثل هذه الحادثة في مكائدهم (أضواء على دراسة السيرة النبوية، صالح الشامي، ص 113 – 114)، ومما يدل على أن النبي ﷺ أراد من خطبته هذه بيان فضل علي (رضي الله عنه) للذين لم يعرفوا فضله، أنه عندما قام عنده بريدة بن الحصيب ينتقص في علي ـ وكان قد رأى من علي جفوة ـ تغير وجه النبي ﷺ، وقال: «يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» فقال بريدة: بلى يا رسول الله. قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه» (السلسلة الصحيحة، 4/336).
قال العلامة المناوي (رحمه الله) في فقه روايات الحديث: إن ائتمرتم بأوامر كتابه، وانتهيتم بنواهيه، واهتديتم بهدي عترتي، واقتديتم بسيرتهم، اهتديتم فلم تضلوا (فيض القدير، 3/14). وقال ابن تيمية (رحمه الله) بعد أن بين أن الحديث ضعيف لا يصح: وقد أجاب عنه طائفة بما يدل على أن أهل بيته كلهم لا يجتمعون على ضلالة. قالوا: ونحن نقول بذلك، كما ذكر ذلك القاضي أبو يعلى وغيره. وقال أيضاً: إجماع الأمة حجة بالكتاب والسنة والإجماع، والعترة بعض الأمة، فيلزم من ثبوت إجماع الأمة إجماع العترة (منهاج السنة النبوية، 4/105).
إن حديث الثقلين، في قوله ﷺ: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي» (سنن الترمذي ، كتاب المناقب، رقم 3786). وفيه كلام من حيث صحته وثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والثابت عند مُسلم أن الأمر كان بالتمسك بكتاب الله، والوصية بأهل البيت كما مر من حديث زيد بن أرقم في مسلم، فأوصى بكتاب الله، وحث على التمسك به ثم قال: «وأهل بيتي؛ أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي»، فالذي أمر بالتمسك به كتاب الله وأما أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فأمر برعايتهم وإعطائهم حقوقهم التي أعطاها الله تبارك وتعالى إياها (حقبة من التاريخ ، ص 203).
ورداً على فهم الشيعة الخاطئ لحديث الثقلين من وجوه:
– إن عترة الرجل هم أهل بيته، وعترة النبي صلى الله عليه وسلم هم كل من حرمت عليه الزكاة وهم بنو هاشم، هؤلاء هم عترة النبي صلى الله عليه وسلم، فالشيعة ليس لهم أسانيد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يقرون بهذا أنهم ليس عندهم أسانيد في نقل كتبهم ومروياتهم وإنما هي كتب وجدوها وقالوا ارووها فإنها حق، أما أسانيدهم كما يقول الحر العاملي وغيره من أئمة الشيعة إنه ليس عند الشيعة أسانيد أصلاً ولا يعولون على الأسانيد (حقبة من التاريخ، المصدر السابق نفسه)، فأين لهم ما يروونه في كتبهم ثابت عن عترة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ بل أهل السنة هم أتباع عترة النبي صلى الله عليه وسلم وأعطوهم حقهم، ولم يزيدوا ولم ينقصوا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق نفسه: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ولكن قولوا: عبد الله ورسوله» (البخاري ، رقم 3445).
– إمام العترة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وبعده يأتي في العلم عبد الله بن عباس الذي هو حبر الأمـة، وكـان يقول بإمامة أبي بكر وعمر قبـل علي رضي الله عنهم بل إن عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه)، قد ثبت عنه بالتواتر أنه قال: أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ أبو بكر وعمر (البخاري ، رقم 3671). فعلي يقرّ بفضل الشيخين وهو إمام العترة (حقبة من التاريخ ، ص 204).
– إن الشيعة يطعنون في العباس (رجال النجاشي ، ص 52)، ويطعنون في عبد الله ابنه، ويطعنون في أولاد الحسن، وقالوا: إنهم يحسدون أولاد الحسين، ويطعنون كذلك في أبناء الحسين نفسه من غير الأئمة الذين يدعونهم كزيد بن علي (بحار الأنوار، 46/194)، وكذلك إبراهيم أخي الحسن العسكري (الكافي، 1/504)، وغيرهم فهم ليسوا بأولياء للنبي صلى الله عليه وسلم وعترته بل أولياءُ النبي وعترته هم الذين مدحوهم وأثنوا عليهم وأعطوهم حقهم ولم ينقصوهم (حقبة من التاريخ ، ص 205).
3. فهم صحابة رسول الله ﷺ للخطبة النبوية في غدير خم:
فهم الصحابة الكرام (رضوان الله عليهم) بأن المراد بالمولى أو الولي هو ما ارتبط بالحب والولاء والطاعة، ولذلك عبّروا عن طاعتهم وإجلالهم لسيد أهل البيت علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) بمناداته يا مولانا، فعن رياح الحارث قال: جاء رهط إلى علي بالرحبة فقالوا: السلام عليك يا مولانا، فقال: كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب؟ قالوا: سمعنا رسول الله ﷺ عليه يقول يوم غدير خم: «من كنت مولاه فهذا مولاه» قال رياح: فلما مضوا اتبعتهم فسألت من هؤلاء؟ قالوا: نفر من الأنصار فيهم أبو أيوب الأنصاري (فضائل الصحابة 2/702).
إن أهم ما يستفاد من هذا الحديث هو أن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) نفسه لم يكن يفهم من لفظ (مولى) معنى الإمامة والإمارة، فمن الملاحظ أن أمير المؤمنين علياً قد استنكر منهم مناداته ب (يا مولانا)، ولو كان أمير المؤمنين علي العربي الفصيح يراها مرادفة: يا أميرنا أو: يا إمامنا؛ لما استنكر على القائلين تلك المناداة (ثم أبصرت الحقيقة ، ص 200).
4. حديث استخلاف علي (رضي الله عنه) على المدينة في غزوة تبوك:
كان في رجب سنة تسع من الهجرة غزوة تبوك، وكانت لها أهمية كبيرة في السيرة النبوية، وتحقق منها غايات كانت بعيدة الأثر في نفوس المسلمين والعرب، ومجرى الحوادث في تاريخ الإسلام (المرتضى للندوي ، ص 55)، واستعمل رسول الله ﷺ على المدينة علياً، فوجد المنافقون فرصة للتنفيس مما بداخلهم من حقد ونفاق فأخذوا يتكلمون في علي رضي الله عنه بما يسيىء إليه، فمن ذلك قولهم ما تركه إلا لثقله عليه وهذا القول منهم في حقه، علامة بارزة واضحة على نفاقهم، ففي الحديث الصحيح أن علياً رضي الله عنه قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم : أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق (صحيح مسلم).
وعند ذلك أدرك علي الجيش وأراد الغزو معهم قائلاً: يا رسول الله! أتخلفني في الصبيان والنساء، فقال رسول الله ﷺ: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي» (البخاري ، رقم 2404).
وليس في هذا الحديث ما يستدل به الشيعة على كون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) خليفة لرسول الله ﷺ، والرد عليهم من وجوه:
الوجه الأول: الحديث المذكور له سبب هام لا ينبغي أن يغفل، وأن يفهم الحديث دونه، فقد طعن المنافقون في علي رضي الله عنه، فبين رسول الله ﷺ مكانته وفضله، وكذب المنافقين.
الوجه الثاني: من الثابت: أن هارون عليه السلام كانت وفاته قبل موسى (عليه السلام)، والاستدلال بالحديث على إمامة علي بعد رسول الله بالتالي غير منطبق ولو أراد رسول الله ﷺ النص على علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) لقال له مثلاً، أنت مني بمنزلة يوشع من موسى، لأن نبي الله يوشع استخلف على بني إسرائيل بعد وفاة موسى عليه السلام، ولكن ذكر رسول الله ﷺ لهارون عليه السلام الذي كان خليفة موسى عليه السلام في حياة موسى لا بعد وفاته ليس له إلا معنى واحد هو الترضية لعلي الذي أحزنه إبقاء الرسول صلى الله عليه وسلم له في المدينة مستخلفاً على الضعفاء والنساء والأطفال والمتخلفين عن الغزوة، فبيّن له النبي عليه الصلاة والسلام أنه كما استخلف موسى عليه السلام أخاه هارون عليه السلام على قومه، وذهب للطور للقاء ربه تبارك وتعالى، فاستخلافي لك من هذا الباب، فموسى لم يستخلف هارون عليهما السلام استخفافاً به وتنقيصاً له، وإنما ائتماناً له وثقة به، وكذلك الحال معك يا علي بن أبي طالب رضي الله عنك.
الوجه الثالث: هارون عليه السلام لم يكن وصياً لموسى عليه السلام، بل نبياً ووزيراً بنص القرآن، وقياس حال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه الذي هو عند الشيعة وصي وليس بنبي قياساً مع الفارق، علماً بأنهم يرفضون القياس أصلاً.
الوجه الرابع: الاستدلال بكون هارون (عليه السلام) وزيراً لكليم الله موسى (عليه السلام) على وزارة أمير المؤمنين علي لرسول الله ﷺ أعجب من الأولى، ذلك لأن الله تعالى الذي جعل هارون عليه السلام وزيراً لنبيه موسى عليه السلام قال في محكم كتابه عن طلب موسى عليه السلام: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي *هَارُونَ أَخِي *اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي *وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي*﴾[طه: 29‑32] فهل يرى من يدّعي التطابق بين الاثنين كون علي رضي الله عنه مشاركاً لرسول الله ﷺ في نبوته كما هو الحال في مشاركة هارون لموسى عليه السلام في أمره؟! من يعتقد ذلك فلا شك في كفره وخروجه من ملة الإسلام (ثم أبصرت الحقيقة ، ص 215).
الوجه الخامس: لقد استخلف النبي ﷺ على المدينة غير علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)؛ ففي غزوة بدر استخلف عبد الله بن أم مكتوم، واستخلف في غزوة سليم، سباع بن عُرفطة الغفاري، أو ابن أم مكتوم على اختلاف في ذلك، واستخلف في غزوة السويق، بشير بن عبد المنذر، واستعمل على المدينة في غزوة بني المصطلق، أبا ذر الغفاري، وفي غزوة الحديبية، نُمَيْلة بن عبد الله الليثي، كما استعمله أيضاً في غزوة خيبر، وفي عمرة القضاء استعمل عويف بن الأضبط الديلي، وفي فتح مكة، كلثوم بن حصين بن عتبة الغفاري، وفي حجة الوداع، أبا دجانة الساعدي ذكر هذا ابن هشام في مواقف متفرقة من السيرة، إضافة إلى أن استخلاف علي على المدينة لم يكن الأخير فقد استخلف النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة في حجة الوداع غير علي، وهذا منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تربية القادة كما حدث عندما أمَّر أبا بكر على الحج، واختصه أيضاً بإمامة الصلاة وحده (السيرة النبوية لابن هشام، 2/650 ، 804 ، 806).
الوجه السادس: أما تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بهارون فهذه فضيلة، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه أبا بكر وعمر بأعظم من هارون؛ ففي غزوة بدر، لما كانت قضية الأسرى واستشار النبي ﷺ أبا بكر، فرأى أن يعفو عنهم وأن يفادوهم قومهم، ورأى عمر أن يقتلهم، فقال ﷺ لأبي بكر: «إن مثلك كمثل إبراهيم يوم قال: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *﴾ [إبراهيم: 36]، ومثلك كمثل عيسى إذ قال: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *﴾ [المائدة: 118]». ثم التفت إلى عمر فقال: «يا عمر إن مثلك مثل نوح لما قال: ﴿رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا *﴾ [نوح: 26]، ومثلك كمثل موسى لما قال:﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ *﴾ [يونس: 88]» فشبه أبا بكر بإبراهيم وعيسى وشبه عمر بنوح وموسى، وأولئك من أولي العزم، وهم خير البشر بعد رسول الله ﷺ، وهم أفضل من هارون بدرجات صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بهارون تكريم له كما كرّم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر عندما شبههم بإبراهيم وعيسى وموسى ونوح عليهما السلام (حقبة من التاريخ ، ص 200).
ز ـ من أقوال العلماء في شرح الحديث:
– قال النووي (رحمه الله)، وهذا الحديث لا حجة فيه لأحد منهم، بل فيه إثبات فضيلة لعلي ولا تعرض فيه لكونه أفضل من غيره أو مثله، وليس فيه دلالة لاستخلافه بعده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال هذا لعلي حين استخلفه في المدينة في غزوة تبوك ويؤيد هذا أن هارون المشبه به لم يكن خليفة بعد موسى، بل توفي في حياة موسى، وقبل وفاة موسى بنحو أربعين سنة على ما هو مشهور عند أهل الأخبار والقصص، قالوا: وإنما استخلفه حين ذهب لميقات ربه للمناجاة (شرح صحيح مسلم، 13/174).
– قال ابن حزم ـ رحمه الله ـ بعد أن ذكر احتجاج الرافضة بالحديث: وهذا لا يوجب له فضلاً على من سواه ولا استحقاق الإمامة بعده؛ لأن هارون لم يلِ أمر بني إسرائيل بعد موسى عليهما السلام، وإنما ولي الأمر بعد موسى ـ عليه السلام ـ يوشع بن نون فتى موسى وصاحبه الذي سافر معه في طلب الخضر عليهما السلام، كما ولي الأمر بعد رسول الله ﷺ صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة، وإذا لم يكن علي نبياً كما كان هارون نبياً، ولا كان هارون خليفة بعد موت موسى على بني إسرائيل؛ فصحّ أن كونه ـ رضي الله عنه ـ من رسول الله ﷺ بمنزله هارون من موسى إنما هو في القرابة فقط، وأيضاً فإنما قال له رسول الله ﷺ هذا القول إذ استخلفه على المدينة في غزوة تبوك.
ثم قد استخلف ﷺ قبل تبوك وبعد تبوك في أسفاره رجالاً سوى علي ـ رضي الله عنه ـ؛ فصح أن هذا الاستخلاف لا يوجب لعلي – فضلاً على غيره – ولاية الأمر بعده، كما لم يوجب ذلك لغيره من المستخلفين (الفصل، 4/159 ـ 160).
الوجه السابع: الحكمة في عدم تخصيص رسول الله ﷺ من بعده أحداً ليتولى أمر الأمة تتضح في إدراكنا لحقيقة الدين الإسلامي كدين رباني للبشرية، وأنه لو حدد الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً من بعده، فإنه يكون قد أعطى المسوغ الشرعي ليدعي المدعون وقد فعلوا بدون برهان ـ بأن قيادة الأمة من حق أسرة بعينها، ويصبح الحكم الوراثي هو الحكم السائد في الإسلام، ولكن رسول الله ﷺ أراد ـ وهو لا ينطق عن الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ـ أن يترك هذا الأمر مطلقاً للمسلمين أن يختاروا أصلحهم وأخيرهم، ولو كانت المسألة وراثة لكان بنو هاشم أول من ينالون هذا الأمر (دراسات في عهد النبوة للشجاع ، ص 270).
إن هذا الدين العظيم هو دين لبني الإنسان ورسول الله ﷺ هو رسول الرحمة المهداة للعالمين على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وثقافاتهم وأوطانهم في كل زمان ومكان. فالإسلام، بأيّ حال من الأحوال، لا يصح أن يكون محصوراً في أسرة حاكمة واحدة، ويظل متوارثاً كالمتاع، وإذا كانت العهود الإسلامية التالية فعلت ذلك، كالدولة الأموية والعباسية، فإن هذا مخالف للقاعدة الشرعية النبوية الأولى، وما كان خلاف القاعدة، ينبغي أن يُنحى هذا المفهوم القاصر كليةً من الفكر الإسلامي حتى يصبح ناصعاً نقياً لا تشوبه شائبة (المصدر السابق نفسه).
_____________________
المرجع الأساسي للمقال:
كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير دمشق، ط2 2009م/ 1430 هـ، ص 650. وانظر:
http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/632