يحتاج التأثير الدعوي إلى بصيرة تسهم في إدراك الواقع وفهم الواجب تجاهه، من أجل الوصول إلى الهدف وتحقيق الغاية، وإن الدعوة الإسلامية تتطلع إلى تكوين هذه البصيرة في الدعاة، حتى يدركوا ما تنطوي عليه نفوس الناس، وما يجب لهم من مهارات وأدوات تستطيع أن تقودهم إلى الصراط المستقيم.
وتأتي هذه السلسلة من المقالات الدعوية تحت عنوان «الأسس النفسية للتأثير الدعوي» من أجل الوقوف على الركائز النفسية التي يستند إليها الداعية ليحقق النجاح في مهمته السامية، ويأتي الأساس الثامن بعنوان «حشد الجماهير».
يقصد بـ«حشد المدعوين» جمع الناس في مكان واحد بقصد التأثير فيهم.
حشد الجماهير في مكان واحد يسهم في تشكيل روح عامة تقضي على التمايزات الشخصية
التأصيل الشرعي
راعت الشريعة الإسلامية ميل الإنسان إلى الاجتماع، فأقرت ذلك في أحكامها وتوجيهاتها، حيث اتسمت الشعائر الإسلامية الكبرى بالجماعية، وجاءت النداءات القرآنية والنبوية –في غالبها- بصيغة الجمع، حيث إن الاجتماع يشجع الأفراد على إنجاز الأعمال الكبرى، من خلال التعاون فيما بينهم وتقليد بعضهم بعضاً، وبثّ القوة والحماسة فيهم بسبب التجمع حول الفكرة الواحدة.
التوظيف النفسي
أكدت الدراسات النفسية أن حشد الجماهير في مكان واحد يسهم في تشكيل روح عامة تقضي على التمايزات الشخصية وتدفع إلى المشاركة الجماعية؛ مما يجعل التأثير فيهم أقوى من مخاطبتهم منفردين، حيث إن التأثير في شخصيات عشرة أفراد إذا أمكن جمعهم في جماعة، أسهل من التأثير في شخصية كل منهم على حدة(1)، والسبب في هذا هو ما تتميز به التجمعات البشرية من نقل السلوك بين أفرادها عن طريق العدوى الاجتماعية، كما يستجيب الناس فيها لمن حولهم بمجرد الإيحاء، وتكون النفس فيها قابلة للتحريض، مندفعة في التصرف، مهيأة للتماثل مع الآخرين، بل إن الفرد قد يشعر وسط الحشد الجماهيري بالإلزام، الذي يعني الخضوع لما تمليه الجماهير في الموقف الحاضر(2).
وهذه الخصائص من شأنها أن تجعل الجمهور أثناء الحشد قابلاً للتوجيه متهيئاً له، مما يؤكد فاعلية الحشد في التأثير الدعوي، حيث إن الحشود الجماهيرية تُيَسِّر غرس المبادئ والقيم في الأفراد(3)، كما تجعلهم يلتقون على قلب رجل واحد، ويقومون بأعمال عظيمة لا يمكن أن يقوم بها كل واحد منهم وهو منعزل عن المجموعة(4)؛ ولهذا كان حشد الجماهير من أهم المطالب التي ينادي بها الدعاة، من أجل تيسير الاستجابة وحسن توظيف الطاقات البشرية في الجوانب المختلفة.
التوظيف الدعوي
إذا أدرك الداعية أن حشد الجماهير يؤدي دوراً فاعلاً في التأثير فإنه يتخذ الإجراءات المحققة له في الدعوة العامة، ومنها:
أولاً: حضور الجماهير في المكان المخصص للقاء قبل الداعية، فإن هذا يحقق الشوق له، والتطلع إليه، ويدل على هذا ما ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يدخل المسجد يوم الجمعة حتى يجتمع الناس، فإذا اجتمعوا خرَج إليهم(5)، كما يدل عليه أيضاً ما كان في بيعة العقبة الثانية في أوسط أيام التشريق، حيث لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة إلا بعد أن تسللوا إلى منى في موسم الحج(6).
الداعية إذا استطاع أن يجمع جمهوره فإنه ينطلق بهم إلى ما يريد من أفكار وأعمال
ثانياً: الحرص على عدم اتساع المسافات بين الجماهير، فإذا كان عددهم قليلاً؛ فيجب أن نختار لهم مكاناً صغيراً، فإذا كان المكان بطبيعته كبيراً؛ فيجب أن نطلب منهم التحرك إلى الأمام، حتى يقتربوا من المتحدث، ويكاد يلمس بعضهم بعضاً، لأن الأماكن الفسيحة المكشوفة والمقاعد الخالية بين المستمعين تثبط الحماسة وتقلل الإثارة، فإذا أردت التأثير في الجماهير؛ فاحشد مستمعيك؛ تحلق بهم بنصف المجهود(7).
وسبب ذلك أن التقارب بين الجمهور يؤدي إلى إفقاد الإنسان جزءاً كبيراً من فرديته، ويجعله متطلعاً إلى المحيطين به، مشاركاً لهم في انفعالاتهم وحركاتهم بقدرٍ كبير.
ثالثاً: توظيف الحشود البشرية في غرس المبادئ والقيم وإنجاز مشروعات النفع العام؛ حيث إن وجود الشخص مع آخرين كثيرين من أمثاله ينهمكون في نفس العمل والنشاط الذي هو فيه، من شأنه أن يدفعه إلى الحماسة والعمل والوحدة والتماسك والتضحية والفداء.
ويدل على هذا ما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم حين أراد الخروج إلى غزوة «تبوك»، حيث جمع أصحابه في مكان واحد وأخبرهم بوجهته، ثم حثهم على الصدقة، فتسابقوا إليها، حتى جاء عمر بن الخطاب بنصف ماله، وجاء أبو بكر بكل ماله، وجهّز عثمان بن عفان ثلث الجيش، وأنفق العباس بن عبدالمطلب، وطلحة بن عبيد الله، وعبدالرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة مالاً وفيراً في تجهيز الجيش(8)؛ مما يدل على حماستهم لإنجاز المصلحة العامة، حين جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم وحثهم عليها.
الدليل على التأثير الناجح
إذا استطاع الداعية أن يجمع جمهوره بصورة تحقق الصفات النفسية للحشود البشرية؛ فإنه ينطلق بهم إلى ما يريد من أفكار وأعمال، بل إنه يستطيع أن ينتقل بالجماهير المحتشدة من الباطل الذي اجتمعوا له إلى الحق الذي يريده، ويدل على هذا ما ثبت في السُّنة النبوية الشريفة من أن مجموعة من الأنصار قد وجدوا في أنفسهم شيئاً حين أفاء اللَّه على رسوله من أموال هوازن، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يعطي رجالاً المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم.
المواقف الدعوية التي تحتشد فيها الجماهير تحتاج إلى فقه وحسن إدارة حتى تؤتي ثمارها
قال أنس: فحُدِّث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قُبَّة ولم يدع معهم غيرهم، فلما اجتمعوا قال لهم: «ما حديث بلغني عنكم»، فقال فقهاء الأنصار: أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئاً، وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا: يغفر الله لرسول الله يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبون بالنبي إلى رحالكم، فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به»، قالوا: يا رسول الله، قد رضينا(9).
ففي هذا الموقف دلالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرص على جمع القوم وحشدهم في مكان واحد، ثم خاطبهم وأوضح لهم مقصده من فعله فاقتنعوا ورضوا.
والخلاصة؛ أن المواقف الدعوية التي تحتشد فيها الجماهير تحتاج إلى فقه وبصيرة، وحسن إدارة، حتى تؤتي ثمارها ويستطيع الداعية من خلالها أن ينفذ إلى قلوب الجماهير، وأن ينتقل بهم من الضلالة والغواية إلى الرشاد والهداية.
_______________________
(1) سيكولوجية الجماعات والقيادة: د. لويس كامل مليكة، (2 / 56).
(2) العقل الجمعي: د. رمضان حميدة، ص 141-162 باختصار.
(3) المدخل في دراسة الجماعات الاجتماعية: د. غريب محمد سيد أحمد، ص 89.
(4) سيكولوجية الجماهير: غوستاف لوبون، ترجمة: هاشم صالح، ص 13-14.
(5) زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، (1/ 536).
(6) السيرة النبوية، ابن هشام، (1/ 443).
(7) التأثير في الجماهير عن طريق الخطابة: ديل كارنيجي، ص 110.
(8) أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الزكاة، باب في فضل سقي الماء، (3/ 108 رقم 1678)، وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: حديث حسن، وانظر: المغازي: للواقدي، (3/ 991).
(9) متفق عليه: أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، (4/ 1574 رقم 4076)، وأخرجه مسلم، كِتَاب الزَّكَاةِ، بَابُ إِعْطَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، (2/ 733 رقم 1059).