وقع العقل المسلم في الدور الحضاري الأخير بين منهجيتين منحرفتين؛ الأولى: الثورة على التراث ومحاولة التنصل منه ورميه بكل نقيصة ونسبته إلى الماضوية المنقطعة عن الحاضر والمعادية للمستقبل، والتراث في طرح هؤلاء يشمل القرآن والسُّنة بوصفهما اجتهاداً تاريخياً لا يجاوز حدود بيئته الأولى زماناً ومكاناً.
والمنهجية الثانية: منهجية تقديس التراث والحؤول بين العقل المسلم والاجتهاد الأصيل والتجديد المنضبط اللذين لا تستغني عنهما مسيرة بشرية.
وقد يبدو للوهلة الأولى أن هاتين المنهجيتين متناقضتان، بيد أنهما في حقيقة الأمر وجهان لعملة واحدة رديئة، يتكاملان في حرمان الأمة من شرطي النهوض الحضاري الذي لا يمكن أن يكون إلا برعاية الأصول والثوابت التي يسعى الفريق الأول لهدمها، وبالاجتهاد الواسع في مواكبة المتغيرات الزمانية، وهو ما يصادمه الفريق الثاني؛ لتظل الأمة تدور بين شقي الرحى؛ تمييع الثوابت من جهة، وتثبيت المتغيرات من جهة أخرى، وكلاهما يهدم ركناً ركيناً من أركان الشهود الحضاري.
المشككون حاولوا أن يجعلوا التاريخ مشاعاً ليحرموا الإسلام من منجزاته الحضارية وينسبوها إلى إبداعات قوم آخرين
ومقصودنا في هذه العجالة مناقشة المنهجية الأولى، التي تحولت خلال القرن الأخير لمعركة فكرية حقيقية ما زالت ممتدة ومتنامية منذ بدأها الاستشراق الغربي، الذي كان تواقاً لاستكمال مشروعه الاستعماري؛ عبر تذويب الهوية وتفكيك البنية الاجتماعية الصلبة للمجتمعات المسلمة، لتتحول إلى حالة من الهشاشة تمكنه من السيطرة والتوجيه، لتؤول الأمة إلى التبعية والاستسلام على المستوى الفكري والاجتماعي في آن واحد.
التشكيك بأصالة التراث
وقد اعتمدت حركة الاستشراق وتلامذتها المقلدون من بني جلدتنا في هذا السياق عدداً كبيراً من المنهجيات والتقنيات، بيد أن منهجيتين مركزيتين بعينهما كانتا لب المعركة؛ الأولى: تقوم على التشكيك في أصالة التراث الإسلامي بجملته وادعاء أنه محاكاة تاريخية لمنتجات حضارات سابقة؛ فالنظام السياسي الإسلامي هو محاكاة لآراء فلاسفة اليونان، والحديث الإسلامي عن اليوم الآخر والجنة والنار وأسماء الله وصفاته مقتبس من العقائد اليهودية، وأصول الفقه محاكاة للمنطق الأرسطي، والفقه الإسلامي بتشريعاته هو في زعمهم اقتباس من القانون الروماني!
وعلى ما في هذه الدعاوى من تهافت منهجي لا يستحق عناء المناقشة، فإن أكذوبة اقتباس التشريع الإسلامي من القانون الروماني التي مثلت نقطة المركز في هذه الدعوى مثيرة للعجب! إذ تتجاهل ما أثبته مؤرخو الحضارة الرومانية أنفسهم من أن ظهور القوانين الرومانية كان في مطلع القرن الثاني عشر الميلادي بعد عدة قرون من استقرار الفقه الإسلامي وترسخ مدارسه، فإن كان ثمة تشابه أو استفادة فلا شك أن اللاحق هو الذي استفاد من السابق.
نحن، إذن، لسنا أمام بحث جاد عن الحقيقة ولا تأريخ منصف للعلم، إننا أمام نتيجة معدة سلفاً يراد لها أن تشيع لتبنى عليها مشاريع فكرية تدعو لنبذ التراث الذي لم يقدم إلا إعادة إنتاج للأفكار القديمة، ولم يبدع شيئاً خاصاً أو أصيلاً، وما دامت المسألة اقتباساً، فلماذا لا يعيد المسلمون الكَرَّة ويقتبسون من الرومان المعاصرين كما اقتبسوا من أسلافهم؟!
ومن خلال هذه المنهجية حاول القوم أن يجعلوا التاريخ مشاعاً ليحرموا الإسلام من منجزاته الحضارية وينسبوها إلى إبداعات قوم آخرين لم يكن للإسلام فيها فضل التأصيل ولا للمسلمين فيها شرف التنزيل! أما منجزات اليونان والرومان والفراعنة والآشوريين فكلها منسوبة إلى أصحابها صادرة عنهم، فهذه الشيوعية التاريخية لا يوصف بها إلا الإسلام، حتى «الماضوية» و«التاريخانية» وفقاً لاصطلاحاتهم لا يمكن أن يصفوا بها أرسطو ولا أفلاطون، فقط يصفون بها مالكاً والشافعي وأضرابهما.
«التأويل» أكذوبة كبرى والمقصود الحقيقي «تعطيل» التراث وحرمان الأمة من عوامل قدرتها على الفعل الحضاري
أما المنهجية الثانية فمنهجية التشكيك الواسع في ثبوت النص وصحة حقائق التاريخ وثوابت التراث تنفيراً منها وترغيباً عنها، وللقوم في ذلك باع كبير؛ فهم يشككون في ثبوت السُّنة ومنهج الرواية والإسناد، ويشككون في مصداقية الرواة حتى الصحابة منهم كأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما، وكذلك في حفاظ السُّنة ومدونيها الكبار كالبخاري ومسلم.
وهم أيضاً يشككون في مصادر التاريخ الإسلامي، والمقصود من هذا التشكيك العريض إفساح المجال لروايتهم هم لأحداث التاريخ وتفسيرهم هم لأحكام الدين وحقائقه، وهذا التشكيك في النقل مقدمة لازمة كذلك لطرح فكرة تقديم العقل على النقل التي هي غاية القوم.
ادعاءات أركون
وحسبنا للتدليل على ذلك أن نتوقف أمام نص لمحمد أركون، أنقله على طوله مضطراً لخطورة مضمونه، يقول: «عندما ينقل محمد سورة قرآنية فإنه حينئذ ليس إلا أداة بحتة للتوصيل والنقل دون أي تدخل شخصي، إنه فقط يتلفظ بكلام الله، وهو إذن الناطق بكلام الله في اللغة العربية، كان هناك شهود وصحابة يحيطون به أثناء ذلك، وقد حفظوا عن ظهر قلب السور واحدة بعد الأخرى، يطيب للتراث المنقول أن يذكر أنه في حالات معينة فإن بعض السور كان قد سجل كتابة فوراً على جلود الحيوانات وأوراق النخيل أو العظام المسطحة.. إلخ، واستمر هذا العمل عشرين عاماً.
كان طبيعياً، بعد وفاة النبي، أن تطرح مسألة جمع هذه السور في كل متكامل، ذلك أن زمن الفتح قد ابتدأ وأصبح الصحابة يتبعثرون في الأمصار، فكر الخليفة الأول أبو بكر بتجميع أكبر عدد من السور وكتابتها من أجل حفظها، وتم بذلك تشكيل أول مصحف (مصحف في حالته البدائية)، وقد وضع هذا المصحف عند عائشة بنت أبي بكر وزوجة النبي، هذه السور القرآنية سوف تستخدم مباشرة بصيغ جدالية هدفها الصراع على السلطة السياسية، هذا ما يمكن أن نستشفه من التراث المنقول على الرغم من الرقابة الصارمة التي أحيط بها هذا التراث.
الواجب الأقدس للأمة حفظ ثوابتها من العبث وفتح الباب أمام الاجتهاد الأصيل الذي ينطلق من ثوابت الدين
راح الخليفة عثمان (أحد أعضاء العائلة المعادية لعائلة النبي!) يتخذ قراراً نهائياً بتجميع مختلف الأجزاء المكتوبة سابقاً والشهادات الشفهية التي أمكن التقاطها من أفواه الصحابة الأُوَل، أدى هذا التجميع عام 656 م إلى تشكيل نص متكامل فرض نهائياً بصفته المصحف الحقيقي لكل كلام الله كما قد أوحي إلى محمد، ورفض الخلفاء اللاحقون كل الشهادات الأخرى التي تريد تأكيد نفسها (مصداقيتها)؛ مما أدى إلى استحالة أي تعديل ممكن للنص المشكل في ظل عثمان».
هذه هي رواية التراث، وهذه الرواية التي تمثل اليوم الموقف الإسلامي العام التي لها قوة المسلَّمة التي لا تُناقش ولا تُمس، لنعد صياغة هذه الرواية مرة أخرى: كل كلام الله الموحى به إلى محمد كان قد نقل بصدق وإخلاص كامل، ثم حفظ كتابة في المصحف المشكل زمن عثمان أي خمسة وعشرين عاماً بعد وفاة النبي.
إذن، يريد أركون فتح باب التشكيك في ثبوت النص القرآني على مصراعيه وهو يفعل ذلك تلميحاً وتصريحاً:
– فهو يستغرب أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مجرد ناقل للوحي دون تدخل منه في شيء من نصوصه!
– ويتعجب من استظهار الصحابة لكل نص قرآني وحفظهم إياه بمجرد تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم له.
– وما جمع من القرآن في عهد أبي بكر كان أكبر عدد ممكن من السور وليس كلها، وجمع هذه السور كان بقصد توظيفها في المعارك السياسية.
– والجمع الكامل للمصحف كان في عهد عثمان الذي ينتمي لعائلة معادية للنبي صلى الله عليه وسلم!
– ومصحف عثمان قام على رفض كل الشهادات الأخرى وتكميم أفواه أصحابها!
– ويتعجب أركون غاية العجب من أن يعد المسلمون مصحف عثمان «كل كلام الله الموحى به إلى محمد»! ويتعجب من اعتقادهم أن هذا النص قد نقل بصدق وإخلاص كامل ثم حفظ كتابة في المصحف المشكل زمن عثمان أي خمسة وعشرين عاما بعد وفاة النبي!
– ويختم بالسخرية من إجماع الأمة؛ سُنة وشيعة، على مصحف عثمان.
مسلك للتشكيك بالقرآن
كل هذه النقاط مسلك للتشكيك في النص القرآني حشدها الرجل في بضعة أسطر، ويستخف أركون أخيراً باجتماع الأمة على القرآن وعجز أي أحد عن توجيه نقد له، وهنا بيت القصيد؛ ليس الإجماع هو الذي أعطى للقرآن قدسيته، بل القرآن هو صانع الإجماع، وهو مناط الاجتماع، وهو السياج الذي يحمي لُحمة الأمة ويصنع وحدتها، والتشكيك فيه على هذا النحو الفج البذيء مقصوده حرمان الأمة من أصل بقائها وأصلب مقومات وجودها.
كل هذا التشكيك والتزييف والتحريف يسمى «تأويل التراث»، وكلمة التأويل هنا أكذوبة كبرى، والمقصود الحقيقي هو «تعطيل» التراث وحرمان الأمة من مقومات وحدتها وعوامل قدرتها على الفعل الحضاري البناء وصولاً إلى النهوض والشهود.
ويبقى الواجب الأقدس لهذه الأمة هو أن تحفظ ثوابتها من العبث وتفتح الباب واسعاً أمام الاجتهاد الأصيل الذي يضيف لرصيد التاريخ ولا يخصم منه، وينطلق من ثوابت الدين ولا يتمرد عليها، حينئذ ستحدّث الأرض أخبارها.