تتميز وتتشرف مهمة الداعية بأنها مهمة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهي دعوة لتغيير ما في نفوس الناس حتى يغير الله ما بهم من فساد وحيدة عن الفطرة، وكل داعية وواعظ لا يسير نحو هذا الهدف أو لا يرمي إلى هذه الغاية فهو جهد ضائع وعمل باطل ومنقوص.
وخير مثال للداعية الكامل والنموذج الثابت في طريق الدعوة هو رسول الله ﷺ الذي بعثه الله داعية إلى الهداية على طريق الله المستقيم، ومثل أروع نموذج يقتدى به في الثبات رغم كل ما تعرض له ﷺ من معسكر الشرك من مغريات وتهديدات، وكثير من عرض الدنيا الذي لم يزحزحه عن الطريق إلى أن أدى الأمانة وبلغ الرسالة بعد اكتمال الدين وتمت نعمة الله على من آمن بها ثم التحق بالرفيق الأعلى.
لاقت دعوة الإسلامية التي جاء بها نبي الإسلام محمد بن عبدالله ﷺ صدوداً ومقاومة عنيفة وشرسة من قبل أعيان قريش وسادتها.
تمثلت مقاومة قريش لدعوة الإسلام في صور متعددة ومتنوعة، منها التكذيب والتشهير بالنبي ﷺ وبمن آمن به وبدعوته من أوائل الصحابة من كافة سكان مكة بمختلف قبائلهم وأجناسهم وأعراقهم، وطال حتى النساء، وتعرض البعض منهم للتعذيب؛ مثل بلال، وخباب، وعمار، وزنيره، وللقتل مثل ياسر، وزوجته سمية بنت خياط؛ بل طالت محاولات القتل شخص رسول الله ﷺ للقضاء عليه وعلى دعوته.
اتخذت قريش كل الوسائل لثني النبي ﷺ عن دعوته واستخدمت كافة أساليب التهديد والإيذاء.
واجتمع المشركون من زعماء قريش وسادتها من أصحاب النفوذ والسطوة يوماً، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه، ولينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد.
فأتاه عتبة فقال: يا محمد، أنت خير أم عبدالمطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قوم منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم: أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى، أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى.
أيها الرجل، إن كان إنما بك الحاجة، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك الباءه فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً.
فقال رسول الله ﷺ: «فرغت؟»، قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حم {1} تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {2} كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) إلى أن بلغ (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) (فصلت)»، فقال عتبة: حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: «لا».
فرجع عتبة إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ فقال نعم.
وفي رواية ابن أسحاق: فلما جلس إليهم قالوا: وما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوا، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصيبه العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به، فقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي، فاصنعوا ما بدا لكم.
يمكن لكل فاحص لهذا الموقف مع النبي ﷺ يجد ودون عناء مدى صلابته صلى الله عليه وسلم في الحق ومدى رسوخ إيمانه بربه وصدق رسالته الذي تجسد في هذا الموقف الذي بين صلابته وعمق قناعته بهذه الرسالة التي لا يساوم عليها بكل مغريات الدنيا من المال والنساء ولا الجاه ولا السلطان.
كل هذه العروض والمغريات جاءت من قريش على طبق من ذهب إلى الرسول ﷺ وهو لا يملك الجاه ولا السلطان، ولكنه كان يملك الإيمان برسالته وعقيدة الإيمان بدعوته التي أمره الله بها.
لقد كان هذا اختباراً من قريش وإغراء له ﷺ لكي يتخلى عن دينه ويترك رسالة ربه، إلا أن تثبيت الله تعالى لنبيه عصمه من الزلل أو أن يقع في الفخ الذي نصبته له قريش لكي يكون قدوة لأصحابه أولاً، ثم لمن آمن به وسار في طريق الدعوة ثانياً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويكون للثابتين في طريق الدعوة الأسوة الحسنة والقدوة التي يجب أن يهتدوا بهديها ويسيروا على نهجها إلى يتحقق النصر والتمكين لهذه الدعوة أو الموت في هذا الطريق دون تردد أو خوف.
وعلى أمل أن يحمل الراية جيل يأتي من بعده يحقق الغاية المنشودة بخطى ثابتة لا تحيد ولا تتزعزع في طريق الدعوة المباركة تقرباً إلى الله تعالى، وتأسياً برسوله ﷺ، فهو أفضل أسوة وأصدق قدوة في طريق الدعوة.
وهكذا هي مهمة الداعية المسلم اليوم؛ يخالط ويصل ويربي وينظم، ويقود، يصبر على المشاق حتى يحقق هدف الدعوة أو يلقى الله على هذا الطريق، ولا يتخلف، ملتحقاً بركب سيد الدعاة وإمامهم عليه الصلاة والسلام، الذي نتعلم منه مهج الدعوة وسبلها وطرق نجاحها ونسير مسيرته المباركة في نشر دين الله ومبادئ شريعته الغراء وفق منهج رسوله الكريم في الصبر والمصابرة وتحمل المشاق والصمود في وجه المغريات إلى آن نلقاه على الحوض غير مبدلين وعلى نهجه من السائرين صلى الله عليه وسلم أفضل صلاة وتسليم.