تزخر الثقافة الإسلامية بمواقف عظيمة تصلح بذاتها دستورًا لمبادئ العدل والمساواة والتراحم، بينتها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسُنَّته؛ قولًا وفعلًا وتقريرًا، «فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى»، و«كل الناس لآدم وآدم من تراب»، و«المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم»، و«أكرم الناس عند الله أتقاهم».
هذه المبادئ التي تَربَّي عليها الصحبُ الكرام، ونبعت منها الحضارة التي فتحت عالم الأنفس، قبل عالم الأراضي والقلاع، في المقابل فقد رتع العالم الغربي قرونًا حرم الناس حقوقهم، وقسمهم أسيادًا ذوي عرقٍ ونسب يحكمون ويتسَيَّدون، وعبيداً يخدمون بلا حقوق ويُعَامَلون بلا مروءة، ثم عاد الغرب من سكرَتِهِ تلك، يلقي الدروس والعظات بشأن الحقوق والمساواة والعدل، ويتهم الإسلام بفقدان تلك القيم ومعاداتها!
هذه الثنائية بين الإسلام والغرب رسخت لدى الشعوب التي طال استعمارها، أو دام سعيها لتبعية الغرب انبهارًا منها بمبادئ مصطنعة براقة، أن التحضر غربي النشأة، والإسلام بربري السلوك والطباع، وهذا والله ظلم فوق الظلم.
هذه الثنائية تساعد في فهم طبيعة الأحداث العنصرية ودوافعها، التي تحدث بين الحين والآخر في تركيا وغيرها، تجاه العرب وغيرهم، ففي خلفية هذه الأحداث يكمن دومًا طرفٌ متعصب متغرب، يُبطن الكراهية، ويُظهر حب بلاده ورغبته في تميزها، وهو في كل يسعي -في الأغلب- لرهن بلاده لدى السيد الغربي ويرغب في ربطها بأخلاق حضارته المصطنعة، ثم يرى في الإسلام ومنتسبيه معطلًا عن هذه الغاية مؤخرًا لحدوثها، وهو بدلًا من إقناع الناس بمبادئه «المتحضرة» يذهب للعنصرية ضدهم واتهام عرقهم بالتخلف والرجعية؛ وهو ما يودي بالعنصري في بلاد المسلمين لكره كل ما هو إسلامي مظهرًا وشعيرة وشريعة أيضًا؛ فيستل سيف العداء هنا، ثم تراه بردًا وسلامًا في مواطن أخرى تناقض الآدمية قبل مناقضتها للأديان بدافع التحضر واحترام حقوق الناس في اختياراتهم الشاذة وحقوقهم المعادية للفطرة.
خلفيات وأسباب
إذن، للعنصرية أسباب نفسية مركبة، تجعل صاحبها يرى نفسه في منزلة أعلى من الآخرين، فيمارس عليهم عنصريته لتميزه عنهم من جهة، وكراهيته لما يمثلونه من جهة أخرى، وهو ما يؤدي في صورته الفردية لإلحاق الأذى الذي قد يصل إلى القتل، لكنه على صعيد الدول والأنظمة العنصرية يرقى لجرائم الإبادة والتطهير العرقي، التي عانى منها الضعفاء بالعالم وجلهم مع الأسف من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
حلول وتدابير
تلك الأسباب النفسية للعنصرية لا يكفي معها النصوص الدستورية المكتوبة، أو التدابير القانونية التي تجرم الفعل وتعاقب فاعله، فما تحتاجه المجتمعات بداية هو تدابير مجتمعية، تتضمن إطاراً أخلاقياً ينبذ الفعل مجتمعيًا ويأنف منه، ويصاحبها مناهج وتدابير تربوية تصاحب المراحل العمرية للمواطنين تبدأ في مراحل التعليم المبكرة، تُهذِّب أفعال الصغير وتضبطها بضوابط قيمية فطرية؛ تغرس احترام الكبير واحترام الآخر؛ أبيض أو أسود، غنياً أو فقيراً، مواطناً أو أجنبياً.
ويصاحب هذا الغرس المبكر سياق تربوي موازٍ من التعزيز يكافئ المحسن، وينبذ الفعل وليس المسيء نفسه، فالكوارث تأتي عندما تتم معاقبة المسيء نفسه وليس فعله! فهو يرى فيما يفعل حقًا مشروعًا من حقوقه، يكافئ سمو جنسه ونقاء عرقه، لا سيما وقد تربي في مجتمعه منذ صِغَره باعتباره بشرًا فوق البشر يسمو عليهم بلون بشرته أو عرقه أو دينه أو قبيلته.
علاج نبوي
ولعل من أنجع طرق العلاج لهذا الأمر ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وأوردته الرواية المشهورة بصحيح مسلم: مرَرْنَا بأَبِي ذَرٍّ بالرَّبَذَةِ وَعليه بُرْدٌ وعلَى غُلَامِهِ مِثْلُهُ، فَقُلْنَا: يا أَبَا ذَرٍّ لو جَمَعْتَ بيْنَهُما كَانَتْ حُلَّةً، فَقالَ: إنَّه كانَ بَيْنِي وبيْنَ رَجُلٍ مِن إخْوَانِي كَلَامٌ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً، فَعَيَّرْتُهُ بأُمِّهِ، فَشَكَانِي إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَلَقِيتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقالَ: «يا أَبَا ذَرٍّ، إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ»، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، مَن سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمَّهُ، قالَ: «يا أَبَا ذَرٍّ، إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، هُمْ إخْوَانُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فأطْعِمُوهُمْ ممَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ ممَّا تَلْبَسُونَ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ، فإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فأعِينُوهُمْ».
سياق الرواية يوضح أن أبا ذر قد سبَّ رجلًا أعجميًا وعيَّره بأُمِّه الأعجمية، مفرقًا بين العرب الذي ينتسب إليهم، والعجم الذي ينتسب إليهم صاحبه وأمه، ثم افترض للعربي منزلة أعلى من الأعجمي، فقابله النبي صلي الله عليه وسلم بقوله: «إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ»، باعتبار أن العنصرية وتمايز الأعراق جاهلية وليسا من الإسلام، وهذا علاج تربوي نفسي يؤنب الضمير ويلحق بالمخطئ صفات الجاهلية التي لا ينبغي أن تجتمع مع الإسلام.
العنصرية.. والقانون في تركيا
ما غاب في أحداث العنصرية الأخيرة تجاه العرب في تركيا ليس القانون، فالدستور التركي يجرّم التمييز على أساس العرق أو اللغة أو اللون والجنس والدين، كما أنه التفت لعدم جواز التمييز لاعتبارات الأصل القومي أو الاجتماعي أو الجوانب الاقتصادية والمناصب الاجتماعية، والقانون نص على عقوبات تتراوح بين ستة أشهر وثلاث سنوات لتجريم أفعال الكراهية والتمييز والعنصرية، كما أن تركيا مثلها مثل باقي دول العالم انضمت للأمم المتحدة والتزمت بمواثيقها وفي مقدمتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقيات القضاء على أشكال التمييز العنصري، بل إن أي نظام سياسي في العالم مهما كانت وجهته ينص في الدستور والقوانين على مبادئ المساواة أمام القانون وعدم التمييز وفق عوامل الدين والعرق واللون والجنس، ويؤكد مبادئ العدالة والحريات العامة.
لسنا، بطبيعة الحال، مع تغييب دور الدولة في الزجر والعقاب، لكننا نلفت النظر لضرورة تكامل المنظومة القيمية الحاكمة للمجتمع، إن أردنا التصويب.
الإشكالية ليست في وجود القانون أو فقدانه، بل في تطبيقه والإيمان بدوره، فقد تكون الجهة التي تنفذ القانون هي الأخرى قد أصابتها النعرة أو العنصرية، أو ترى في نفسها ذات عوامل التميز التي يراها العنصري في نفسه، عندها، حتى وإن لم تمارس العنصرية فقد فقدت الحياد والمصداقية التي يجب أن تتحلى بهما جهات إنفاذ القانون، فالعدالة الغائبة، والردع المتراخي، واتباع «الهوى الجمعي» يشجع على الفعل المجرم بدلاً من منعه، وهذا للأسف أكثر الأسباب التي ساهمت في تفاقم العنصرية بتركيا في الفترة الأخيرة.
الذي يغيب وقت تكرار الحوادث العنصرية هو الجانب المجتمعي، وتماسك القيم الفطرية التي تربى عليها الناس وتمت صناعتها على مهلٍ عبر معالجتها في مراحل عمرية ممتدة، بفعل الدين ثم العادات والأعراف والتقاليد.
فالمجتمع المستقيم يسهل معه مهمة الدولة في التجريم، وتكون قدرتها على الإلزام أشد، أما المجتمع المهتز فيتغير حسب المنعطفات التي تعصف بالدولة كالحروب والأزمات، أو مواطن المنابذة والانقسام كالانتخابات مثلاً، عندها تنكشف سوءته وتعلو فيه قيم الكبر والعنصرية والكراهية؛ ما يصعّب مهمة الدولة التي لم تتعاف بعد من كبوتها، حيث تغيب معاني الأخوة والمساواة والعدالة، وتحل معاني الأثرة والتنابز والانقسام.
الذي يميز بين شعب وآخر ليس درجة التزامه بالقانون، بقدر تماسك قِيَمِهِ وأصالتها ورسوخها، التي في غيابها غياب للدولة، حتى لو تجملت بمعانيها الشعارات، وأنشدتها الأغاني الوطنية، وصنعت لأجلها الأفلام والمسلسلات.