إن البيوت لا تخلو من مشكلات، وقد قيل: «البيوت مغلقة على نيران»؛ ففي كل بيت مشكلات علمها من علمها وجهلها من جهلها؛ فصمت بعض الأزواج؛ رجالاً ونساء، وعدم شكواهم لا يعني خلو بيوتهم من المشكلات.
والمشكلات في البيوت ملح الحياة؛ فعندما تفقد الزوجة زوجها تتذكر عصبيته وغضبه وتضحك!
وعندما يفقد الزوج زوجته يتذكر نسيانها وغيرتها وتبرمها من ثقل حمل البيت فيترحم عليها ويكثر من الدعاء لها!
وعندما يفقد الزوجان أولادهما يتذكران الضجة والصداع الذي يحدثه الأولاد فيتمنون أن دامت هذه الضجة وهذا الصداع؛ فالوحدة قاتلة!
ووجود المشكلات دليل على بشريتنا، وأننا لسنا ملائكة.
لكن هناك حدود يجب ألا تتعداها المشكلات؛ وتركها بلا حل أو معالجة مؤذن بخراب البيوت.
فمثلاً المغاضبة التي تقع بين الزوجين، وارتفاع الأصوات، فليس من العنف، بل من طبيعة الحياة؛ فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَسَمِعَ عَائِشَةَ وَهِيَ رَافِعَةٌ صَوْتَهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ، فَقَالَ: يَا ابْنَةَ أُمِّ رُومَانَ وَتَنَاوَلَهَا، أَتَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ؟
قَالَ: فَحَالَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا!
قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ لَهَا يَتَرَضَّاهَا: «أَلَا تَرَيْنَ أَنِّي قَدْ حُلْتُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَكِ؟».
قَالَ: ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَوَجَدَهُ يُضَاحِكُهَا، قَالَ: فَأَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَشْرِكَانِي فِي سِلْمِكُمَا، كَمَا أَشْرَكْتُمَانِي فِي حَرْبِكُمَا(1).
ومن المشكلات الأسرية العظمى «العنف الأسري».
والعنف الأسري، في أبسط تعريف: هو خشونة وغلظة في التعامل بين مكونات الأسرة ينتج عنها أذى نفسي أو بدني، وقد يكون موجهًا من طرف ضد الأطراف الأخرى، أو من كل الأطراف بعضها تجاه بعض.
أي أن العنف قد يكون موجهًا للزوجة دون الأولاد، أو للأولاد دون الزوجة، وقد يقع العنف تجاه الجميع.
وهذا العنف قد يكون مؤقتًا أو دائمًا؛ فالمؤقت يخضع للظروف الطارئة الدافعة إليه فيزول بزوالها؛ كأن يشعر الزوجان أن باب الحوار بينهما قد أغلق؛ فينتج عن ذلك الانفصال -أو ما يسمى الطلاق- العاطفي، فيزول التفاهم وتمكث الغلظة والخشونة وسوء الظن بينهما.
أو حينما يحاول الأب قسر أولاده على وضع يراه الأنسب والأجدر لهم، ويعتبره من باب إصلاحهم، فيتشدد معهم، ولا يدرك الأولاد ذلك فيعاندونه، أو يكرهون المكوث معه، ثم يزول ذلك إذا يئس الأب من التغيير، أو حينما يدرك أن طريقته كانت خاطئة، أو إذا استقام له الأولاد.
والدائم قد يكون بسبب تركيبة نفسية عند صاحبها تدفعه لذلك ولا يستطيع الفكاك عنها؛ فيأتي العنف دون تدرُّج فيكون الأصل في التعامل هو الغلظة والخشونة.
والعنف قد يكون لأسباب خارجية؛ مثل الضغوط النفسية في العمل أو الحياة، أو التخبيب من أطراف خارجية، أو لأسباب داخلية؛ مثل سوء خُلق الزوج أو الزوجة، أو وقوع العناد بين الزوجين وصعوبة مراس الزوجين فلا يلين أحدهما للآخر، أو ضعف الوازع الديني، أو توارث تقاليد تدعو للعنف، أو تشوُّه نفسي ناتج عن ظروف اجتماعية قاسية أو تربية فاسدة.
والعنف قد يكون عنفًا جسديًّا بالضرب -مثلاً- الذي لا يكون في أضيق الحدود للتربية، وكأنه ضرب للانتقام، فلا يلتزم الضارب بالضوابط الشرعية؛ فعَنْ إِيَاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى ذُبَابٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لاَ تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ»، فَجَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: ذَئِرْنَ -أي: اجترأن ونشزن وساءت أخلاقهن- النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ؛ فَرَخَّصَ فِي ضَرْبِهِنَّ، فَأَطَافَ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَقَدْ طَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ لَيْسَ أُولَئِكَ بِخِيَارِكُمْ»(2).
وقد قبَّح النبي ﷺ هذا الفعل من الرجل الذي لا غنى له عن زوجته فيسيء معاملتها، ثم يطلبها لقضاء وطره فقال: «لاَ يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ»(3).
ولم يحبذ النبي ﷺ التزوج من ضرَّاب النساء؛ فقد جاءته فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ تَقُولُ: إِنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلاَثًا، فَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سُكْنَى وَلاَ نَفَقَةً، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي»، فَآذَنْتُهُ فَخَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ وَأَبُو جَهْمٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَرَجُلٌ تَرِبٌ لاَ مَالَ لَهُ، وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ، وَلَكِنْ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ»، فَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا: أُسَامَةُ أُسَامَةُ! فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «طَاعَةُ اللَّهِ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ خَيْرٌ لَكِ»، قَالَتْ: فَتَزَوَّجْتُهُ فَاغْتَبَطْتُ(4).
والعنف قد يكون عنفًا معنويًّا بالشتم، ويقصد به الإهانة والإذلال والتعيير، وكرامة المرأة من كرامة زوجها، وإهانته لها هي إهانة لنفسه، وانحطاط في مهاوي السفالة، وهذا ليس سمت المؤمنين؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلاَ اللَّعَّانِ وَلاَ الْفَاحِشِ وَلاَ الْبَذِيءِ»(5).
وهناك عنف أثناء الزواج وهو ما سبق الحديث عنه.
وعنف بعد الطلاق ويكون بحرمان أحد الطرفين من الأولاد، أو عدم القيام بالحقوق المستحقة من نفقة، أو ذكر الآخر وأهله بالسوء.
ولا شك أن الإنسان يبحث عن السعادة في حياته، والزوجة الصالحة من سعادة الرجل؛ فعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله ﷺ: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاوة: الجار السوء، والمرأة السوء، والمسكن الضيق، والمركب السوء»(6).
والعنف لا يؤدي إلى السعادة أبدًا، إنما التفاهم والتعاون واللين والصبر والطاعة والاقتصاد في المعيشة، وعدم إرهاق الزوج بالطلبات، والاعتذار عن الخطأ، وسرعة الفيء، وترك المعاندة، كلها أمور نتجنب بها العنف الأسري.
________________________
(1) أخرجه أحمد في المسند، ح(18394)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
(2) أخرجه أبو داود في النكاح، باب: فِي ضَرْبِ النِّسَاءِ، ح(2146)، وذكره الألباني في صحيح سنن أبي داود.
(3) أخرجه البخاري في النكاح، باب: مَا يُكْرَهُ مِنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ، وَقَوْلِهِ: ﴿وَاضْرِبُوهُنَّ﴾ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، ح(5204).
(4) أخرجه مسلم في الطلاق، باب: الْمُطَلَّقَةُ ثَلاَثًا لاَ نَفَقَةَ لَهَا، ح(1480).
(5) أخرجه الترمذي في البر والصلة، باب: مَا جَاءَ فِي اللَّعْنَةِ، ح(1977)، وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي.
(6) أخرجه ابن حبان في صحيحه، ح(4032)، وقَالَ شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط البخاري.