لقراءة التراث العربي والإسلامي والتعامل معه تأويلاً أو تحقيقاً، لا بد من توفر مقومات وأدوات لا يمكن التعامل معه أو فهمه بدونها، وهذه بعض منها بحسب ما هداني إليه التأمل والاجتهاد:
أولاً: دراسة هذا التراث والعيش معه:
فلا يمكن لأحد لم يقرأ نصاً تراثياً أن يتعامل معه أو يحكم عليه؛ فهذا التراث ليس سهلاً، بمصطلحاته وأدواته، بتاريخه ومراحله، بدلالاته وأعرافه، بمصنفاته وأعلامه، بمدارسه في كل علم واتجاهاته، ونحن نذكر هنا الشهيد عبدالقادر عودة وهو يكتب كتابه الفريد «التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي»؛ حيث حكى أنه عانى معاناة في فهم الفقه، وكان يقرأ الكتاب مرة ثم مرة ثم مرة حتى يستطيع أن يفهم.
لا يمكن لأحد لم يقرأ نصاً تراثياً أن يتعامل معه أو يحكم عليه
ومن أسف أن الذين يهاجمون التراث، ويتخذون منه مواقف سلبية، أكاد أجزم أن واحداً منهم لم يطلع على صفحة واحدة من هذا التراث، وإذا قرأ فإنما يقرأ عنه ممن يكتبون عن جهل به وسطحية في النظر إليه، ويردد هؤلاء وأولئك أقوالاً يلوكونها بألسنتهم، ويحسبونها هينة وهي عند الله عظيمة.
ثانياً: تعلم اللغة العربية:
إذا كان تراثنا العربي والإسلامي كتب باللغة العربية، فلا بد من تعلم هذه اللغة حتى نستطيع أن نفهم نصوص الوحي، ونعبر إليه من خلال تراثنا العربي واٍلإسلامي الذي يستوجب قراءته بلغته، ولا غرو فقد قامت علوم العربية من أجل خدمة القرآن والسُّنة، ولها علاقاتها الوطيدة بعلوم الإسلام، وحسبنا الكتاب الموسوعة الذي تجاوز الألف صفحة لابن الأزرق الغرناطي من علماء القرن التاسع الهجري بعنوان «روضة الإعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام»، كما أن هناك كتباً تتحدث عن الوجوب الشرعي لتعلم العربية، وهذا حق، فإن باحثاً مدققاً منصفاً لا يسعه إلا أن يقول بوجوب تعلم العربية لمن اشتغل بعلوم العربية والإسلام.
ثالثاً: الوقوف على مقاصد المؤلفين:
لكل مؤلف من كتابه أهداف، وله في تناوله مصطلحات لها مضامين ودلالات، فقد يستخدم المصطلح قديماً بمعنى مغاير لما استقرت عليه الحال اليوم؛ فيقع الخلط ويحدث الفهم الخطأ والتأويل الخطأ، فقد كان الحديث الضعيف مثلاً عند الإمام أحمد يدخل فيه الحسن وألوان الضعيف، حتى إذا ما تطور علم المصطلح واستقر انفصل الضعيف عن الحسن، وبغير إدراك ذلك يمكن النقل عن الإمام أحمد نقلاً خطأ، والحكم على ما يقول حكماً خطأ، وهكذا.
وتتجلى مقاصد المؤلفين في مقدمات كتبهم؛ حيث إن كل عالِم يُودع مقدمة كتابه مقصودَه منه واصطلاحاتِه فيه، وبدون ذلك لا يمكن التعامل مع التراث ولا مناقشة الكاتب، ولا تأويل ما يقول، ومن هنا فإن الاطلاع على مقاصد المؤلفين أمر في غاية الأهمية والخطورة معاً، لا يمكن تجاوزه ولا تجاهله بحال من الأحوال.
رابعاً: معايشة المشتغلين بالتراث والرجوع إليهم:
لكل صنعة أهلها، ولكل علم رجاله، ولكل مجال خبيره الذي أمرنا الله تعالى بسؤاله والرجوع إليه: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً) (الفرقان: 59)، فلا يقبل أن يرجع الناس للمختصين والخبراء في كل مجال، ثم يصبح مجال التعامل مع التراث وتأويل مقولاته ملعبة ومعبثة في يد كل أحد، ومع كل من هبَّ ودبَّ، ويصبح مستباحاً للجهلة والسطحيين الذين لا يؤتمنون على قراءة صفحة واحدة من كتاب تراثي.
لا بد من تعلُّم اللغة العربية حتى نستطيع أن نفهم نصوص الوحي
وإن معايشة مَنْ أفنوا أعمارهم في معالجة التراث وفهمه وحراسته من الأمور المهمة التي تُكوّن المَلَكة وتحقق المراد وتربي منهجية التعامل مع التراث وتأويله بدقة وتحقيق؛ فلا بد للأجيال المعاصرة أن ترث هذا الوعي والعمق في التعامل مع التراث، ولا يمكن لهذا أن يتحصل إلا بمعايشة من عانوا في هذا الطريق، وسلكوا في التعامل مع التراث سبيل التحقيق والتدقيق، فحالفهم من الله تعالى القبول والتوفيق.
تحديات أمام قراءة التراث الإسلامي وتأويله
إذا كان ما سبق يعد مقومات في التعامل مع التراث، وأدوات يجب استكمالها من أجل تأويل التراث تأويلاً يتناسب مع منزلته المعرفية وقيمته الحضارية، فإن هناك تحديات لو لم نتغلب عليها ستحول بيننا وبين معرفة تراثنا؛ فضلاً عن تأويله تأويلاً صحيحاً، والتعامل معه تعاملاً سليماً، ومن هذه التحديات:
أولاً: ضعف الثقة بالذات:
إن ضعف الثقة بالنفس يمثل مرضاً نفسياً خطيراً، ليس في التعامل مع تراثنا فقط، وإنما في التعامل اليومي مع الحياة والأحياء والأحداث والأشياء، فالإنسان المتردد ضعيف الثقة بنفسه لا يمكن أن يُحدث فرقاً، ولا أن يقوم بتغيير؛ فضلاً عن أن يقوده ويمسك زمامه.
الاطلاع على مقاصد المؤلِّفين أمر لا يمكن تجاوزه ولا تجاهله
فاهتزاز الثقة بالذات من العوائق الكبيرة، وهي تمثل هنا الظن بأن تراثنا لا يرقى إلى التعامل مع الواقع، ولا يملك من الملاءمات ما يمكّنه من حل المعضلات الواقعية والمشكلات العملية، فهو يرى نفسه بلا جذر، ولا تاريخ ولا حضارة، وهذا من قلة اطلاعه على هذا التراث العظيم، ومن كثرة سماعه للجهلة والحداثيين والمتغربين الذين يتبعون الغرب حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، حتى لو دخل جحر ضب خرب لدخلوه، ولا حل أو علاج أمام هؤلاء إلى استعادة الثقة بذواته وتراثهم من خلال قراءته ومعالجته والإقبال عليه، والإشراف على درره الثمينة وكنوزه العظيمة.
ثانياً: الفتنة بالغرب:
من المعوقات أو التحديات في التعامل مع التراث فضلاً عن تأويله الفتنة بالغرب، فها هو الغرب قد صعد إلى القمر، واخترع من المخترعات ما قاد به العالم، وهو الآن يحكم العالم ويتحكم في مقدراته، سواء بالأصالة أو بالوكالة، ولو كان الغرب على باطل لما تقدم هذا التقدم ولا تحكم هذا التحكم، كما أن العالم العربي والإسلامي لو كان على حق لما وصل إلى ما وصل إليه من تخلف وتقهقر وتشرذم وتفرق، وأن التراث العربي والإسلامي أحد أهم هذه العوائق عند المسلمين، تعوقهم نحو انطلاقتهم وتقدمهم كما تقدم الغرب.
وهؤلاء في الحقيقة عذرهم أنهم يرون ما عند الغرب من تقدم مادي وهو حق، رغم أن هذا التقدم المادي المنفصل عن القيم والأخلاق والروح ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، ولكنهم (أجيالنا) يجهلون تاريخهم وحضارتهم ولا علاقة لهم بتراثهم، ولو اطلعوا على ما عندنا من كنوز في سائر علوم الإسلام وعلوم الإنسان لما ذهبوا هذا المذهب، ولما وقفوا أمام حضارة الغرب مبهورين بها، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة!
ثالثاً: طبيعة الأجيال المعاصرة:
من التحديات التي تلفت الانتباه للتعامل مع التراث العربي والإسلامي وتأويله، التي تقف حائلاً بين أجيالنا وتراثنا؛ طبيعة هذه الأجيال؛ طبيعتها الإنسانية اليوم، وأخلاقها في مجملها؛ فهي أجيال عجولة، لا قدرة لديها على التحمل، ولا طاقة لها على الصبر، تريد الإنجاز السريع والعمل السريع والنتائج السريعة، كيف لا وهم يحققون من أعمال في لحظات ودقائق ما كان أسلافهم يحققونه في أيام وشهور وسنين؟! ولكن ما أبعد الفرق بين المسلكين! وما أعظم البون بين النتيجتين هنا وهناك!
من التحديات في التعامل مع التراث فضلاً عن تأويله الفتنة بالغرب
فهذه الطبيعة لأجيالنا المعاصرة تحتاج إلى إعادة تأهيل، وتعزيز التربية على الصبر الجميل، وقوة الإرادة وعلو الهمة، وبذل الجهد، ومحاكاة السابقين في هذا كله، وهو أمر يحتاج إلى تفكير وتخطيط بما يتناسب مع هذا التحدي الكبير.
رابعاً: سلبيات وسائل التواصل:
لا يخفى على أي متابع ما ترسخه وسائل التواصل الاجتماعي من طباع وأخلاق في الأجيال الصاعدة، حتى انسحب هذا التأثير على الأجيال الكبيرة سناً التي طرأ عليها هذا العالم وطرأت عليه؛ حيث عاشت قبله واقع الحياة دون وجود هذه الوسائل، والتحدي يتمثل في أن هذه الوسائل قد أسهمت في تسطيح الثقافة، وتفريغ الأجيال من مضمونها، وترسيخ ثقافة «تيك أواي»، وحرق عمرها وإضاعة أوقاتها في غير سبيل الرشاد إلا من رحم الله تعالى!
طبيعة أجيالنا المعاصرة تحتاج إلى تأهيل والتربية على التحمل
فالأجيال تضيع أعمارها وأوقاتها في مشاهدات ومتابعات ما لا يسمن ولا يغني من جوع، ومع طول الوقت وتقدم العمر تصبح هذه الأجيال خاوية على عروشها، لا ثقافة ولا علم ولا ارتباط بالتراث ولا إنجاز.
إن هذه الوسائل تمثل تحدياً ليس قليلاً يحول بين الأجيال وتراثها، ويضعها في حالة غربة عنه؛ لأنها لا تقضي وقتاً معه، ولا تقرأ فيه ولا عنه، بل تعيش مستغرقة في ساحة هذا العالم الافتراضي، ومتسربلة في جاذبيته واستتباعه.