إذا قلنا: إنَّ الإسلام عقيدة وشريعة وسلوك؛ (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت: 45).
وقلنا: إنَّ أعداء الإسلام يسعون جهدهم لمحو هذا الدين من الوجود؛ (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصف: 8).
وقلنا: إنّنا على ثقة من نفاذ الوعد الإلهي والنبوي بحفظه؛ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك».
وقلنا: إن الأعداء قد اقتنعوا بأنهم لن يبلغوا أملهم من هذا السعي مع مرور الأيام وتعدد المحاولات، كما بشرنا القرآن منذ قرون: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (الأنفال: 36).
إذا قلنا ذلك كله فلا بد لنا –حتى نكون واقعيين ومنصفين وصادقين مع أنفسنا ومع الحقيقة ومع الناس- من الإقرار بأنهم بلغوا بعض الأمر، حتى إننا لا بد من أن نسلم بأنهم نجحوا في فصل أثر العقيدة الإسلامية عن واقع المسلمين، فلم يعد المسلمون يعملون بمقتضى عقائدهم؛ في جانب الإلهيات، وفي جانب النبوات، وفي جانب الفطرة، وفي جانب النظم، وفي جانب السلوك والقيم والأخلاق.
لا بد من أن نسلّم بأنهم نجحوا من حيث تأخير الشريعة عن نظم الحياة، ومن حيث تجنيب العقيدة والإيمان عن السلوك والأخلاق.
فليست المدنية التي يعمل بها المسلمون اليوم مدنية إسلامية، وليست الحياة التي يعيشها المسلمون اليوم حياة إسلامية، وليس المجتمع الذي يعيشه المسلمون اليوم مجتمعًا إسلاميًّا كالصورة التي يرضاها الإسلام وسبق أن طبقها المسلمون في عصورهم التي خلت لهم فيها الأجواء وتهيأت لهم خلالها الظروف لتربية المجتمعات المسلمة على العقيدة والشريعة والنظم الإسلامية في كل جوانب الحياة.
إن المسلمين اليوم وإن آمنوا بالإسلام وطوت على عقائده صدورهم، إلا أنهم مسلمون بلا مدنية إسلامية، وبلا مجتمع إسلامي، وبلا مناخ إسلامي يتوافق مع عقيدتهم تلك.
يعيش المسلم اليوم حالة من الشتات عظيمة -وحق له أن يعيشها- تضرب قلبه وعقله فتصيبهما بالدهشة والذهول.
وهذه الحالة من الشتات مقصودة لمن يصنعها له، وهذه الدهشة وهذا الذهول مرغوبان ممن وضعه فيهما.
فأما أنه من حق المسلم في هذه الحالة أن يتشتت وأن يدهش وأن يذهل فواضح؛ إذ يكفي أن نتأمل إنسانًا -رجلًا أو امرأة، والدًا أو ولدًا- يجد في حياته العامة هذا الكم الهائل من الأوضاع والأحوال والظروف التي تخالف عقيدته التي يؤمن بها، وشريعته التي يدين بها، وأخلاقه التي يجب أن يمضي في معاملاته مع الخلق على أساسها.
تناقض ليس له آخر، واختلاف ليس له مبرر، وتشتت ليس له داع، وتساؤلات ليس لها من إجابة.
ما معنى أن يتعلم المسلم عقيدة التوحيد ومن آثارها: السعي إلى مرضاة الله وحده، وعدم الحرص على رضى من سواه إذا خالف رضاه، ثم يجد نفسه يجبر على تنحية ذلك ومخالفته ومصانعة الوجوه كلها ليتمكن من العيش وقضاء المصالح، وإلا بقي مكانه لم يبرحه وتعطلت مصالحه تلك ولم تقض؟!
ما معنى أن يتعلم المسلم الإيمان بالملائكة، ومن آثاره: الاستقامة واستشعار المراقبة واليقين بأن كل صغيرة وكبيرة من أمره مدونة عليه مسجلة محصاة في كتاب سيلقاه يومًا ويفتح بين يديه ويجب عليه أن يستحيي من جنود الله أولئك فلا يخالف ولا يعصي أمام أولئك الشهود الأطهار فإنهم سيؤدون شهادتهم تلك عليه أمام من ولّاهم شأنه؛ العزيز الجبار.
ما معنى أن يتعلم المسلم هذا ثم هو في المجتمع المسلم يُكره على رؤية المنكرات بالعين، وسماع القبائح بالأذن، وقول السيئات باللسان وفعلها بالجوارح؟!
ما معنى أن يتعلم المسلم الإيمان برسل الله عز وجل الذين أرسلهم الله تعالى لتبشيره وتخويفه وحثه على عبودية رب العالمين وإقامة الدين، ومن آثار هذا الإيمان: الاقتداء بأولئك المرسلين وتحويل هديهم إلى منهج حياة فإنهم أكمل الخلق علمًا وعملًا وصدقًا وصلاحًا وخُلُقًا وهم بهذا وغيره جديرون بالتأسي بهم دون غيرهم ومن ثم يجب أن يحبهم ويقتدي بهم بل يقدم محبتهم على محبة الوالد والولد والنفس؟!
ما معنى أن يتعلم المسلم هذا ثم هو ينظر فيجد المجتمع المسلم يقدم الفاسق والعاصي أو الفارغ واللاهي ليكونوا هم قدوة الناس، بينما ينحي هذا المجتمع الصالحين والطائعين وأهل الاستقامة عن هذا المقام، أو هو يصفهم بصفات لا يمكن معها أن يراهم أفراد هذا المجتمع قدوات أو يحتذي طريقهم أو يقتفي أثرهم أو يرتضي سيرتهم؟!
ما معنى أن يتعلم المسلم الإيمان بكتب الله عز وجل التي أنزلها هدى ونورًا لتحكم بين الناس بالحق وتكون لأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم رائد صدق وموعظة وذكرى للسائرين إلى ربهم ليجد جزاء ذلك في دنياه بركة وخيرًا وفي أخراه حسنة وأجرًا، ويستحق على ربه سبحانه بموعوده وموعود رسله عليهم الصلاة والسلام الدرجات العلى في الجنة والنجاة والوقاية من النار؟!
ما معنى أن يتعلم المسلم هذا ثم ينظر في حياته المدنية فلا يجد كتاب الله الأعظم الذي لا تصح نسبة كتاب في الأرض إليه سواه في غير موضعه من الدستور والقوانين تستمد الهداية من غيره وتطلب النظم والتراتيب كلها (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والعلاقات الدولية.. إلخ) مما عداه؟!
وقل مثل ذلك في بقية أركان الإيمان وأصول عقائد الإسلام، ومثلها قواعد التشريع.
لماذا يكتب على المسلم وحده أن يعاني من هذا الاضطراب والشتات والقلق بين ما هو واجب وما هو واقع، ما هو حق وما هو كائن، بين ما هو مسطور وما هو منظور؟!
وكم يكلف المسلم هذا من عناء يشق على قلبه وعقله ونفسه تحمله؟ وإلى متى ستتحمل الأجيال المسلمة هذه العناء أو لنقل: إلى متى ستنتبه له؟ فلا ريب أن المرء يطرح ما يستثقله أو يتخفف منه بعض التخفف، ثم يأتي جيل لا ينتبه إلى هذا ويرث الأوضاع الموجودة على أنها الدين؛ الواجب والحق والمسطور، وإن بعض هذا اليوم لحاصل!
إنني أطرح هذا السؤال ولا أنتظر الإجابة فإنها للقاصي والداني:
معلومة غايتها وأهدافها.
معلومة مظاهرها وعلاماتها.
معلومة أسبابها ودوافعها.
معلومة عوائق وعقبات تأخرها.
معلومة لأنها قد بحثت كثيرًا لكن نتائج هذه البحوث لم تأخذ طريقها إلى التطبيق رغم مرور الوقت، وشدة الحاجة، وزيادة الداء، وتضاعف الأعراض.
ولئن كان هذا حال أعدائنا –ومن يظاهرونهم- الصبر والاصطبار، فإننا نستحيي من الله أن يرانا أقلَّ منهم جدًّا وسعيًا واحتمالًا، وإنا لنرجو من الله ما لا يرجون؛ نرجو المثوبة والنصر والتأييد، وهم لا يرجون شيئا من ذلك، ونحن أشد رغبة في إقامة كلمة الله وإعلائها، ومعنا وعد الله بتحقق ذلك طال الزمان أو قصر: (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ)، (وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ) (التوبة: 32)، وفي الحديث عن تميم الداري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلًّا يذل الله به الكفر».
وإن ذلك لكائن بأيدي المسلمين قبل المسيح صلى الله عليه وسلم، وقبل المهدي، وما لنا –أهل الإسلام- مهديّ ينتظر.