يقوم المستشرقون الغربيون، مدفوعين بتحيزاتهم الدينية واعتباراتهم السياسية، بعمل متواصل منذ قرون لتشويه صورة الثقافة الإسلامية، هؤلاء «العلماء» المفترض فيهم الحياد لم يحرفوا الأحداث التاريخية والمعتقدات الإسلامية فحسب، بل مارسوا أيضًا دورًا نشطًا في إدامة الصور النمطية السلبية عن المسلمين باعتبارهم غريبي الأطوار ومتخلفين وغير عقلانيين.
ويستطيع الباحث المحايد، بقليل من الجهد، من خلال فحص بعض الأعمال الأدبية الشهيرة، أن يكشف دوافعهم غير البريئة، وكذبهم وجهلهم وتدليسهم المفضوح في محاولة يائسة لطمس الحقائق الناصعة للتراث الإسلامي.
ومن أهم أساليبهم ووسائلهم في تشويه ذلك التراث تأويل القرآن الكريم بطريقة خاطئة، وذلك من خلال استخدام مغرض للمنهج النقدي الغربي، الذي يعتمد على الشك والتشكيك في كل شيء، وإثارة كل ما يستطيعون من شبهات والتشبث بها والدفاع عنها بكل ما أوتوا.
أمثلة لتأويل مستشرقين للقرآن:
– من أمثلة التأويل الاستشراقي، لا الخاطئ فقط، بل والجاهل للقرآن الكريم، تفسير المستشرق الفرنسي جاك بيرك لكلمة «صبغة» في الآية الكريمة: (صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ) (البقرة: 138)، بأنها «لون»!
والصحيح أن معنى «صِبغة» في الآية الكريمة: الدين، وسمي بذلك؛ لظهور أثر الدين على صاحبه كأثر الصباغ على الثوب، ولأنه يلزمه ولا يفارقه كالصبغ في الثوب.
– والمستشرق الهولندي فنسنك يفسر كلمة «الأمي» في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ) (الأعراف: 157) بـ«الوثني»!
ولا يخفى ما في هذا التفسير من تدليس، والصواب: أن الأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب.
– وفي تفسير قوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (الأنبياء: 98)، يتدخل المستشرق الأمريكي جيمس بيلامي لتصحيح كلمة «حَصَبُ» -بزعمه- ويقول: «إنه ينبغي أن تكون الكلمة هنا «حطب»، فهي الكلمة التي تعني الخشب للنار، وإنه لسهل جداً التصور كيف حصل هذا الخطأ عند كتابة «حطب» نسي الناسخ وضْع الخط العمودي للطاء فأصبحت الطاء صاداً!
لم يعلم المستشرق المتخصص في لغويات اللغة العربية أن الآية الكريمة تتحدث عن عملية التحصيب بمعنى «الرمي والإلقاء»، ولا تتحدث عن الوقود، فـ«الحصب: اسم بمعنى المحصوب به؛ أي المرمي به، ومنه سميت الحصباء؛ لأنها حجارة يرمى بها، أي يُرمَون في جهنم».
– ترجم المستشرق إيليجا كولا أكنلادي، وهو أيضاً قس نصراني من طائفة «شهود يهوا» الآية الكريمة: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) (النور: 31)، إلى لغة اليوربا فقال: إن معناها تحريم إظهار زينة المرأة الموجودة في فخذها حين تضع رجلاً على رجل.
أين فخذ المرأة المزعوم من مكان وجود «خلاخل» المرأة عند الكعبين؟! وأين كانت تضع المرأة في الجاهلية رجلاً على رجل؟!
– وانظر إلى الفهم السخيف للمستشرق الفرنسي كلود إتيان سافاري للآية الكريمة: (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (الزمر: 75)، حيث زعم أن الآية تخبرنا بأن الملائكة «حفاة الأقدام»!
ولا يخفى على عربي، دارس أو غير دارس للغة، أن معنى «حَافِّيْنَ»؛ أي: «مُحيطين»، يقال: حفّ القوم بفلان إذا أطافوا به.
إثارة الشبهات حول النبي الأعظم وسُنته المطهرة:
– تشويهاً للسُّنة، زعم المستشرق اليهودي المجري المتعصب إجناتس جولدتسيهر أن أحاديث المصطفى ﷺ ما هي إلا مجموعة عقائد، عادات سابقة، مزيج من العقائد والعبادات الفارسية واليونانيـة.
فأي تشابه بين تنزيه وتعظيم الله تبارك وتعالى، كما جاء في الإسلام، ورب الجنود عند اليهود، الذين نسبوا إليه «عزير» (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ) (التوبة: 30)، وهو عندهم يخطئ ويثور ويندم ويستريح! والنصارى عندهم الله ثالث ثلاثة، والمجوس وثنيون هم والهندوس وغيرهم من ملل ونحل ذلك الزمان.
– ومن الشبهات المردود عليها ادعاء المستشرقين ميل النبي إلى النساء وانشغاله!
ولا يخفى على منصف أن هذه الشبهة هي مجرد افتراء على رسول الله ﷺ الذي لم يتزوج بنسائه بدافع الهوى أو مجـرد الشهوة، حاشاه، وهو الطاهر العفيف، بل راعى كما يقول الشيخ محمد رشـيد رضـا المصلحة في اختيار كل زوجة من زوجاته رضي الله عنـهن في التشـريع، والمـودة، والتأليف، وكفالة الأرامل والأيتام، فجذب إليه كبار القبائل بمصاهرتهم، وعلم أتباعـه احترام النساء، والعدل بينهم، وترك من بعده تسع أمهات للمؤمنين، حـتى يفقهن النساء ويعلموهـن الدين.
– وزعم المستشرقون أن القسم الأكبر من الأحاديث لـيس إلا نتيجـة للتطـور الـديني والسياسـي، والاجتماعي، في القرنين الأول، والثاني، وأنها ليست صحيحة، ومن أمثلة الأحاديث التي جاءت نتيجة للتطور الديني، كما يزعمون ظلماً وزوراً، حـديث: «إنمـا الأعمـال بالنيات».
يحسبون أن الإسلام، وهو دين الحق، قد نزل بسيطاً ثم تطور! وهذا وإن صدق على بعض الملل والنحل لا يمكن أن يصدق أبداً على الإسلام، فقد نص القرآن على تمام الدين قبل انتقال النبي ﷺ للرفيق الأعلى في قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (المائدة: 3).
يقول د. مصطفى السباعي، في كتابه «السُّنة ومكانتها في التشريع»: «من أوضح ما يدل على نضوج الإسلام في عصره الأول، أن عمر رضي الله عـنه ساس مملكتي الفرس والروم بأحسن مما كان يسوسهما ملوكهما، وهمـا في الرقـي والحضارة منهما، فلو كان الإسلام قاصراً في ذلك الوقت، لم يكتمـل نضـجه، لمـا استطاع الفاروق أن يقيم العدل، والأمن، والسعادة في ربوع تلك البلاد الواسعة، أمناً لم تذقه شعوبها من قبل، وعدلاً لم تنعم به إلا في ظل الإسلام».
لم تعرف البشرية، ولن تعرف، تراثاً أعظم من التراث الإسلامي، لا نقول هذا ادعاء لفوقية أو تفوق، بل نحن، كمسلمين وكأمة إسلامية بشر ممن خلق، كما يقرر الوحي المبارك، ولكن سر عظمة الأمة وعظمة تراثها أنه معتمد ومستمد من الوحي الصادق؛ من القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن السُّنة المطهرة والسيرة العطرة لنبيه وخير خلقه صلى الله عليه وسلم.