أسئلة كثيرة تدور في الأوساط العربية والإسلامية، النخبوية منها والشعبية، ما الذي تغير بعد انعقاد القمة العربية الإسلامية الطارئة والعاجلة جداً، وبالرغم من عجلة انعقادها، جاءت متأخرة عن وجوب انعقادها عدة أسابيع، المهم أنها انعقدت بعد طول انتظار، وقلنا جاء الفرج، واتخذت مجموعة من القرارات، كانت دون المستوى المطلوب بكثير، ودون ما يتعرض له الشعب الفلسطيني في غزة، من جرائم حرب بشعة، فجمعت للأسف سوأتين معاً؛ سوءة التأخير وسوءة النتيجة، وكلتاهما كشفت عورة القمة، وهزالها.
فهل كان سبب هذا الهزال الذي أصاب قمة القوم تهديد «بنيامين نتنياهو»، رئيس حكومة الاحتلال، الموجَّه للقمة قبل انعقادها، حين قال لهم، بكل صراحة ووضوح، وبصيغة الأمر: «المطلوب هو الصمت، فيما يتعلق بالزعماء العرب الذين يقلقون من أجل مستقبلهم ومستقبل الشرق الأوسط، أقول لهم شيئاً واحداً: عليكم الالتزام بالصمت، والوقوف ضد «حماس»، التي جرت وضعاً كارثياً على غزة، وتسببت بالفقر والقتل لأهل غزة، و«حماس» جزء من محور الشر الذي يهدد العالم، ويهدد العالم العربي أيضاً، وأنا متأكد من أن العديد من زعماء الدول العربية يعرفون ذلك».
في الحقيقة، شخصياً لست متأكداً من السبب الذي جعل هذا «النتن ياهو» متأكداً مما ذهب إليه، أن العديد من الزعماء العرب يعرفون ما يعرفه، ويقوله هذا «النتن» عن «حماس»، وأن الرغبة في زوالها والقضاء عليها رغبة مشتركة بينهم.
المشكلة، برأيي، ليست في هذه المعرفة المشتركة، ولا في الرغبة المتبادلة فقط، بل في هذا الخطاب المتعالي، خطاب الآمر الناهي، الذي خاطب فيه الزعماء العرب.
والحقيقة المُرة أن النتيجة كانت متوقعة قبل انعقادها لسببين؛ من التريث في إقرارها أولاً، وتأخير موعد انعقادها ثانياً، فالمكتوب يقرأ من عنوانه، كما يقولون، حتى ذهب بعض المطلعين في تحليلاتهم، إلى أن هذا التأخير الطويل في انعقادها أمر مقصود؛ الغاية منه إعطاء مهلة لدولة الاحتلال في إطالة مدة عدوانها، حتى تنجز مهمتها ضد المقاومة في غزة، حتى أطلق هذا البعض على هذه القمة «قمة المهلة لتنفيذ المهمة».
فعلى الرغم من ضآلة ما تمخضت عنه هذه القمة، فإن هذا الضئيل جداً لم ير النور، ولم تقو سبع وخمسون دولة عربية ومسلمة على تنفيذه، فلم يُكسر الحصار، ولم يوقف الدمار، وبقي معبر رفح العربي الإسلامي المصري الفلسطيني مغلقاً، ولم تدخل المعونات الإنسانية عنوة، كما جاء في نص القرار، ولم يوقف القتل والإجرام ضد المدنيين والعزل.
وكأنها أرادت بهذا الإجرام أن ترد على من حاول أن يرفع سقف مطالباته في هذه القمة، رغم أن السقف بقي على انخفاضه، ولم يلتزم بمضمون الأمر الذي أصدره إليهم بالتزام الصمت، وفي ردها هذا مؤشران؛ الأول أن دولة الاحتلال لا تقيم وزناً للزعماء العرب لا في قمتهم، ولا في قراراتهم، والثاني أن دولة الاحتلال عندها ضوء أخضر من هذا العديد من الزعماء العرب، الذين أشار إليهم في خطابه لهم، للإجهاز على المقاومة، بأي شكل من الأشكال.
المقاومة الفلسطينية في «طوفان الأقصى» الذي كشف عن قدرات كبيرة تمتلكها المقاومة تؤهلها للقيام بأعمال بطولية خارقة، وغير متوقعة، أرعبت العدو الصهيوني، وأتباعه في المنطقة، هذا الرعب أماط اللثام عن «لوبي» صهيوني عربي، متغلغل في كثير من مفاصل أمتنا، من أنظمة، وحكومات، وأجهزة إعلامية وسياسية ودينية.
ففي الوقت الذي ازدحمت فيه شوارع عواصم العالم وميادينه؛ أوروبية وأمريكية وغيرها، بمتظاهرين رافضين لهذا العدوان، مخالفين بذلك توجهات حكوماتهم وقراراتهم، في دعم دولة الاحتلال وتأييدها، تمنع كثير من الأنظمة العربية شعوبها من التعبير عن تضامنهم مع إخوانهم وأهلهم في غزة وتعتقلهم، وهذا في الحقيقة منسجم مع متطلبات «التزموا الصمت»، لا بل أقاموا مهرجاناتهم الراقصة، وكأن الأمر لا يعنيهم من قريب أو بعيد.
كما صدرت عن بعض الأنظمة العربية -الذين يعرفون ما يعرفه «النتن ياهو» عن المقاومة الفلسطينية- تصريحات رسمية تدين بشدة ما قامت به المقاومة في السابع من أكتوبر، بأبشع الألفاظ، معتبرة ما قامت به عملاً إرهابياً همجياً، وفي الوقت نفسه صمتت عن إدانة ما تقوم به دولة الاحتلال ضد المدنيين، من جرائم حرب بشعة!
وبعد ذلك أمرت هذه الأنظمة العربية أبواقها الإعلامية والدينية والسياسية وغيرها، بالخروج من أوكارهم وشن هجومهم الممنهج على المقاومة في غزة، المقاومة «المجرمة» التي تسببت في هذا الدمار والقتل لأهل غزة، وجلبت لهم الموت الزؤام، بسبب جهلها بالدنيا والدين معاً، وغياب فقه الأوليات من حساباتها، وعدم معرفة فقه الجهاد في سبيل الله، ومتطلبات رفع رايته، بدءاً من طاعة ولي الأمر، وانتهاء بامتلاك القوة المكافئة للعدو!
خرجت علينا هذه الأصوات المستنكرة من أوكارها تبكي أطفال غزة، ونساءها، وشيوخها، وتبكي ما حل بها من دمار، بسبب سوء تقدير المقاومة التي لم تراع ظروفها ولا ظروف عدوها، ولم تأخذ بعين الاعتبار مآلات ما أقدمت عليه، وتركوا القاتل المجرم الذي يدك غزة بطائراته ودباباته ومدافعه وبوارجه من الجو والبر والبحر دون لوم أو تنديد.
وحين تريد أن تقف على سبب هذا العداء للمقاومة الفلسطينية، لن تجد عند هذه الأنظمة سبباً مقنعاً تقوله، فقد نأت المقاومة الفلسطينية بنفسها عن ميادين الخصومة مع أشقائها العرب، ولم تتدخل في شؤونهم الداخلية، ولم تتخذ من دولهم ساحات لعملها، واحترمت خصوصيات كل الدول العربية، والتمست الأعذار لهم، وفي الوقت نفسه قدرت لهم أقل ما يبذلونه من جهود مادية أو معنوية، وبعد عدة محاولات منك للفهم، تخرج بنتيجة مفادها، أن هذه المواقف العدائية هي متطلبات ما أقره الصهيوني الآمر الناهي، للأسف، أن «حماس جزء من محور الشر»!
وحتى حين كان يساء لها، من قبل بعض الأنظمة العربية، كانت تلتزم الصمت، وتحاول عبر الحوار الهادف والهادئ أن تصل إلى حلول مناسبة، فلم تكن أي دولة عربية، أو لنقل: أي نظام عربي في تاريخ هذه المقاومة، منذ نشأتها وحتى الساعة، هدفاً وجهت المقاومة سهامها نحوه، بل لم تنتقد صمتهم ولا سكوتهم ولا تراخيهم في نصرة القضية الفلسطينية، بشكل صريح وواضح، احتراماً لهم، وحتى لا تخسر عمقها العربي، وهو العمق الذي تستند إليه في النهاية، مهما كانت حالة الأنظمة الحاكمة فيه، وبالرغم من ذلك وضعتها على قوائمها المصنفة إرهابية، لماذا؟ فقط هذه هي التعليمات الصهيونية «الوقوف ضد حماس»؛ يعني الوقوف ضد المقاومة.
لله در من رأى في «طوفان الأقصى» أنها الكاشفة الفاضحة، ولعلي أختم مقالتي هذه بالقول: إن اختيار هذا الاسم «طوفان الأقصى» لهذه العملية الجريئة والكبيرة، التي قامت بها المقاومة الفلسطينية الباسلة، هو توفيق من الله، فإني أراها طوفاناً عارماً، يأتي على أخضر ويابس البائسين الفاسدين المتخاذلين المهزومين المنافقين المتصهينين المتاجرين في قضايانا المقدسة، لتحرقه وتكشفه وتذروه رياح الحق والحقيقة، رياح المقاومة، رياح الجهاد، رياح الشهداء، رياح دعوات الثكالى واليتامى، رياح الصابرين المرابطين.