تختلف الدعوة لمقاطعة المنتجات الأمريكية وتلك الداعمة للكيان الصهيوني بعد عملية «طوفان الأقصى» وما تبعها من حرب على غزة، عن باقي دعوات المقاطعة التي تم إطلاقها منذ بدء الانتفاضة الفلسطينية.
هذه المرة تبدو الاستجابة كبيرة وغير مسبوقة، ووصلت لقطاعات عديدة، حتى تبناها الأطفال الصغار في المدارس الابتدائية، وأصبح تجار التجزئة يجيبون من لم تصله دعوة المقاطعة بعد، أننا لا نبيع منتجات المقاطعة.
وقد انتشرت الملصقات التي تربط بين شراء منتجات العدو وداعميه، والمشاركة في قتل أهلنا في غزة؛ فانتشرت ملصقات، مثل: «هل قتلت اليوم فلسطينياً؟»، «لا تساهم في ثمن رصاصهم».
وعلى الرغم من أن الثمار الاقتصادية لهذه المقاطعة بدأت تلوح في الأفق مع خسائر متزايدة لهذه العلامات التجارية، فإنه لا يمكن الوصول لنتائج مؤكدة قبل مرور 3 أشهر على الأقل، كما يقول خبراء الاقتصاد.
المقاطعة أدت إلى تنشيط وإحياء علامات تجارية محلية جيدة
بعض الغرف التجارية حذرت من أن المقاطعة لن يكون لها تأثير كبير على الشركات الأم؛ لأن الفروع المحلية تعمل بنظام الامتياز التجاري، وهي مغالطة؛ لأن هناك نسبة تدفع للشركات الأم مقابل هذا الامتياز، والسؤال المشروع: لماذا لا يغير الوكيل المحلي تلك العلامات التجارية ويحتفظ بنشاطه وعماله كما هو، كما حدث في روسيا مثلاً بعد الحرب الأوكرانية؟
كما أن هذه المقاطعة أدت إلى تنشيط وإحياء علامات تجارية محلية جيدة لم تكن تمتلك فرصة المنافسة مع الشركات والعلامات التجارية عابرة القارات، ومن ثم أدت إلى خلق فرص عمل جديدة، وتبادل تجاري عربي، وخفض في الطلب على العملات الأجنبية، وهذه كلها مزايا اقتصادية ترتبت على حملات المقاطعة.
إن مقاطعة المنتجات الأمريكية وتلك الداعمة للكيان الصهيوني تتجاوز الأبعاد الاقتصادية، رغم أهميتها الشديدة (يكفي في هذا الصدد أن نذكر أن أحد دوافع الحروب الصليبية ومن بعدها الاحتلال الغربي الحديث هو خلق أسواق جديدة لبضائعهم، والعمل على التسبب بخنق الاقتصاديات المحلية وتحويلها لاقتصاديات عاجزة).
إن مقاطعة هذه المنتجات تحمل أبعاداً أخلاقية وحضارية بالغة القيمة، حتى إنها تتجاوز في آثارها تلك الحروب الاقتصادية التي تؤلم العدو.
كسر دائرة العجز
يمكننا النظر للكيان الصهيوني باعتباره جزءاً أصيلاً من المشروع الغربي الذي هو في حالة صراع حضاري مع العالم الإسلامي، صراع خبيث حد محاولة إقناعنا أنه لا يوجد ثمة صراع ولا مؤامرة إلا في العقول المريضة التي لا تزال تعيش على مخلفات فكر العصور الوسطى.
المقاطعة تحمل أبعاداً أخلاقية بالغة ربما تتجاوز في آثارها الحروب الاقتصادية
وكاد مخططهم ينجح مع قطار التطبيع السريع في ظل حالة من اليأس والعجز المكتسبين اللذين ظللا واقعنا، وتحت دعاوى الواقعية الانهزامية والشعور بتضاؤل الذات الحضارية.
كذلك الشعور الجمعي بالضعف وعدم القدرة أمام عدو قوي نتصور أنه يمتلك مجريات الأمور كلها، حتى إنه يسيّر سياستنا الداخلية والخارجية، ويخترق أفكارنا ويصوغ مشاعرنا وأذواقنا، ويشكل هويتنا الاستهلاكية؛ أدى لحالة من العجز المكتسب، وعدم محاولة الخروج من هذا القالب الذي صنعه العدو بمهارة، بل السخرية من الذين يدعون للمواجهة باعتبارهم مجرد ظواهر «حنجورية»!
وأصبح حلم كثير من الشباب الهجرة من هذه الأرض، وأصبحت لغتهم الأكثر رقياً، وأصبح تقليدهم وارتياد مطاعمهم ومقاهيهم رمزاً للحضارة الجديدة، فجاءت حرب غزة لتزيح هذا القناع الناعم الساحر، ليتبدى الوجه الوحشي الذي لا يقل في وحشيته وعنجهيته عما قام به الصليبيون من قبل، ويبدد أوهام السلام العالمي والشرعية الدولية والنظام العالمي الجديد، وأعداء الأمس هم أصدقاء اليوم، وغير ذلك من ترهات، وألح السؤال بشدة: كيف نواجه هذا العدو بأسلحته المتقدمة وحاملات طائراته وغواصاته النووية؟
ضرب الفلسطينيون نموذجاً فريداً للجهاد بأدوات بسيطة محلية الصنع؛ أفقدت العدو توازنه، وسببت له خسائر بشرية واقتصادية فادحة، وأشعلت في الأمة كلها روحاً إيمانية عالية.
ولكن صناعة العجز المكتسب الذي توطنت في بلادنا جعلت فريقاً من الراغبين في المواجهة ويقيدهم العجز يدندنون حول: فقط لو يتم فتح الحدود لذهبنا وحاربنا واستشهدنا.
المقاطعة أسقطت ذلك الانبهار بالغرب وسلعه وأدركنا أننا نستطيع الاستغناء عنها
مشاعر الألم الممتزجة بالعجز، مشاعر قاتلة حقاً، مشاعر كفيلة بهدر كل طاقتنا، فكان لا بد من كسر دائرة العجز والبحث عن حلول عملية ولو صغيرة ولو كانت بمثقال ذرة من الخير، فهي أفضل من مشاعر الرثاء للذات الحضارية المستلبة، وقصائد الحزن التي تمثل اللا جدوى.
ومن هنا كانت المقاطعة بوابة النهضة لهويتنا الحضارية، والباب الذي ندخل منه لمرحلة جديدة في الصراع؛ (ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (المائدة :23).
ثقافة الاستغناء
لقد كان أول دروس المقاطعة أننا نستطيع، ونمتلك إرادتنا الحرة رغم أنف العادة والإعلانات، بل والتخفيضات والإغراءات، نستطيع أن نقول: «لا»، قادرون على الاستغناء عن كثير من السلع التي كنا نظنها ضرورية حد الحتمية، فإذا هي مجرد ترف يستنزفون به أموالنا ويدعمون به عدونا.
حتى الأطفال تعلموا ثقافة الاستغناء عن منتجات العدو، وتعلموا أن تحرير إرادتهم هي أولى خطوات النصر بعد أن علمتهم هذه الحرب بالطريق الصعب من هو عدونا المجرم الذي يحاربنا.
لقد أسقطت المقاطعة ذلك الانبهار بالغرب وسلعه و«برانداته»، وأدركنا أننا نستطيع الاستغناء عنها، على الأقل الاستغناء عن السلع الاستهلاكية التافهة التي تشكل صورته في العقل الجمعي.
التحدي الحقيقي الذي يواجه سلاح المقاطعة عدم الاستمرارية والتراخي
الدرس الثاني الأكثر تميزاً هو الاعتزاز بالمنتج المحلي، أو ذلك المستورد من أحد البلدان الشقيقة، وتشجيعه ودعمه، وتقديم النصائح له حتى يحتل مكانة الآخر، وهي فرصة ذهبية للمستثمرين ورجال الأعمال المحليين؛ وهو ما دفع وأجبر الوكلاء التجاريين للشركات العالمية على تقديم الدعم المادي والمعنوي لأهالي غزة، وهذا يعزز أننا نقدر ونستطيع التأثير.
إن الواقع يتغير إذا أردنا له التغير، ودائرة العجز تنكسر، والانبهار بالعدو يتحطم، والاعتزاز بالذات يبنى من جديد.
ومن لم يستطع الاستغناء عن منتج استهلاكي؛ كيف يتصور أنه يستطيع أن يجاهد العدو على أرض الإسراء؟!
التحدي الحقيقي الذي يواجه سلاح المقاطعة وقد يحد من أبعاده الحضارية النهضوية هو عدم الاستمرارية والتراخي، وهي أحد تداعيات الهزيمة الحضارية ومظهر من مظاهر العجز المكتسب.
وعلى الرغم من أن سلاح المقاطعة يبدو صغيراً، فإن استمراريته تضاعف قوته بطريقة تتجاوز المتتالية الهندسية؛ لذلك كان أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، فالمقاطعة لا ينبغي أن تكون مجرد تفريغ انفعالي لمشاعر الأسى والحزن، أو حتى مشاعر الغضب الذي سرعان ما يخبو، وإنما تكون بوابة لنهضة عزيزة نكسر فيها دوائر العجز ونمتلك فيها إرادتنا من جديد.