يشير التخاذل إلى موقف يتخذه الإنسان حين يتعرض لاختبار في قوة إرادته، فيتراجع عن الجد والاجتهاد والأخذ بالأسباب ويحيد عن الحق بينما هو ماثل أمامه، ويتذرع بالذرائع ليُبرر موقفه المُتخاذل عن نصرة الحق، ويسعى في الوقت نفسه إلى بث خطابه المثبط للهمم والموهن للعزائم؛ فينقل تخاذله للآخرين ويبث سمومه في سائر أرجاء مجتمعه فينشر مرض التخاذل والسلبية واليأس بين الناس.
يقول الله تعالى عن المُتخاذلين: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران: 173)، حيث يُبين الحق سبحانه وتعالى في المنهاج القرآني ميزان التمييز فيما بين أهل التوكل وأهل التخاذل، فالأولون هم الذين لا يصيبهم الخوف أو اليأس أو الشك أو تميل بهم الظنون، بينما الآخرون هم أهل التخاذل الذين يجبنون عن الحق إذا ما تعرضوا للشدائد، ويتراجعون عن الصدق حين تنزل بهم النوازل، فلا يقتصر تخاذلهم وخطابهم على ردع أنفسهم عن اتباع الصراط المُستقيم، بل يتعدى ريبهم وأثرهم السلبي إلى شركائهم في المجتمع، فيثبطونهم عن عزيمتهم ويهونون من إصرارهم ويمنعونهم من سلوك مسلك الجد والاجتهاد والجهاد في سبيل الله.
المنطق المتخاذل ينطلق من فكرة التشكك في حقيقة النتائج التي تترتب على الأفعال الصالحة
سمات خطاب المتخاذلين
وقد أورد الخطاب القرآني إشارات عدة عن الخطاب المُتخاذل ومنطلقاته ودوافعه، وأهم السمات التي تطبع أصحابه، وأبرز الحجج المُستخدمة لديهم لثني الآخرين عن الإقدام على الحق والإقبال على العمل، ومن أبرز تلك السمات:
– الإبطاء: قال تعالى: (وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً) (النساء: 72).
– التخويف: قال تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران: 173).
– التثاقل: (مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ) (التوبة: 38).
– الفرح والافتخار بالنفس: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة: 81).
– الاستكبار: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ) (المنافقون: 5).
– الريبة والشك: (الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (آل عمران: 168).
– الأنانية وحب المصلحة الشخصية: (وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ) (آل عمران: 154)، (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) (الفتح: 11)، (لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ) (التوبة: 42).
التخاذل يبث روح اللامبالاة الناتجة من الاعتقاد بعدم جدوى العمل الصالح والالتزام بالأخلاق
وفي إطار الهدي القرآني الذي عمد إلى إيضاح فلسفة التخاذل ومنطلقات خطاب المتخاذلين والرد عليهم، فإن مفاهيم اليقين والتوكل والصدق جاءت كعلاج أساسي لفكرة التخاذل، إذ لا يتأتى التخلص من خطاب المتخاذلين والدفع نحو بناء مجتمع خالٍ من التخاذل إلا بتثبيت وترسيخ قوي لمفاهيم اليقين بالله والتوكل على الله والصدق مع النفس ومع الله، فالمنطق المتخاذل ينطلق من فكرة التشكك في حقيقة النتائج التي تترتب على الأفعال الصالحة؛ (الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (آل عمران: 168)، ومن ثم فإن الهدف الأول لخطاب التخاذل الهدم والتثبيط وإشاعة اليأس، بينما يدفع اليقين إزاء الأمل والتفاؤل والاطمئنان بأن الأخذ بالأسباب والسعي في سبيل الله يؤديان حتماً إلى النجاح والوصول إلى الأهداف.
أخطار خطاب التخاذل
ويصبح خطاب التخاذل (الحرب على غزة نموذجاً) شديد الخطورة، في ظل ما يمثله من تهديد شديد الهدم في بنية المجتمعات، بما يشيعه فيما بين الناس من الإحباط واليأس والخوف واللامبالاة والشك، وما يبثه من رسائل الكراهية والعمل من أجل المصلحة الشخصية والتخلي عن المسؤولية المجتمعية لكل فرد تجاه الآخرين؛ وهو ما يؤدي في النهاية لإماتة القلوب والضمائر ونشر الفشل في أنحاء الأمة، وتتمثل أهم أخطار التخاذل في عدد من النواحي:
– تغليب المصلحة الشخصية للفرد على المصلحة العامة، والسعي إلى التخريب والتبديد بغرض خدمة الفرد لأغراضه ولو على حساب الآخرين.
– تبعث إثارة الشك والريبة والخوف واليأس من المستقبل في قعود أفراد المجتمع عن السعي والأخذ بالأسباب ومن ثم تدمير بنية المجتمع الإنتاجية.
– يُسهم التخاذل في بث روح اللامبالاة الناتجة من الاعتقاد بعدم جدوى العمل الصالح والالتزام بالأخلاق؛ وهو ما يدفع المجتمع نحو الرذائل والسلوكيات المذمومة ويشيع الفواحش.
– يدفع التخاذل الفرد والمجتمع إزاء الضعف والاستكانة ويثبط من العزائم، بما يطبع المجتمع بطبائع الهوان والانهيار، ويسلب المجتمع كل قدرة على المقاومة والصمود في وجه الشدائد.
التخاذل من أبرز العوامل الدافعة نحو ضعف الإيمان وتراجع التدين والالتزام الأخلاقي
وبينما يعمل التخاذل بمنطق التنصل من المسؤولية والتهرب من مواجهة الشدائد، فإن محاسبة النفس ومساءلة كل فرد في المجتمع عن دوره المنوط به أدائه السبيل الأهم في طور التخلص من التخاذل وخطابه واستشرائه في المجتمعات، فالمتخاذل يدفع عن نفسه المسؤولية عبر الادعاء بالعجز أو الفشل أو اليأس في القدرة على انتهاج الفعل السليم واتباع طريق الحق، بينما المساءلة والمحاسبة تدفع الفرد والمجتمع إلى الوقوف على دوره في المجتمع وتقييم مدى فاعلية هذا الدور وأثره الإيجابي، ومن ثم السعي لاكتساب القدرات والمهارات التي تؤهله لهذا الدور ومراجعة النفس باستمرار بهدف تحسينها ودفعها للأفضل.
إن التخاذل بشكل عام من أبرز العوامل الدافعة نحو ضعف الإيمان وتراجع التدين والالتزام الأخلاقي، إذ يغلب على المتخاذلين ضعف الإيمان والتشكك في نصرة الله لعباده المؤمنين، والريبة من التوكل على الله وبخاصة فيما يتعلق بقسمة الأرزاق فيما بين الناس بالعدل الإلهي، فيصبح المجتمع هشاً أمام النوازل والنوائب، عاجزاً عن الوقوف في مواجهة المصاعب، ويُصبح كل سعي في سبيل كسب الرزق أو رفع الظلم طريقاً لا طائل منه في خطاب المتخاذلين واعتقادهم؛ بما يؤدي في النهاية إلى ثني الأفراد الإيجابيين في المجتمع عن الاستمرار في تقديم القدوة الصالحة، والكف عن بذل الجهد لإصلاح ما يحيط بالمجتمع من إشكالات ومصاعب، فيتضاعف الأثر السلبي للتخاذل وخطابه بمرور الوقت إلى أن يقضي كلياً على آمال المجتمعات في النمو والازدهار والرخاء والتقدم.