يحتاج التأثير الدعوي إلى بصيرة تسهم في إدراك الواقع وفهم الواجب تجاهه، من أجل الوصول إلى الهدف وتحقيق الغاية، وإن الدعوة الإسلامية تتطلع إلى تكوين هذه البصيرة في الدعاة، حتى يدركوا ما تنطوي عليه نفوس الناس، وما يجب لهم من مهارات وأدوات تستطيع أن تقودهم إلى الصراط المستقيم.
وتأتي هذه السلسلة من المقالات الدعوية تحت عنوان «الأسس النفسية للتأثير الدعوي» من أجل الوقوف على الركائز النفسية التي يستند إليها الداعية ليحقق النجاح في مهمته السامية، ويأتي الأساس الخامس بعنوان «حجب الخطاب المتخاذل».
نقصد بـ«حجب الخطاب المتخاذل» منع الخطاب الذي ينطلق من الهزيمة أو المداهنة للعدو، ويسعى إلى تثبيط العزيمة وخفض الهمة والقعود عن الجهاد والنصرة؛ ولهذا فإن الداعية يتخلى عن هذا الخطاب ويمنعه من الظهور ويقطع الطريق أمام الترويج له.
التأصيل الشرعي:
لقد رصد القرآن الكريم صوراً متعددة للخطاب المتخاذل، من أجل أن نقف على حقيقة هذا الخطاب ودوافعه والأخطار المترتبة عليه، سعياً إلى إيقافه والقضاء عليه، حيث أكد القرآن الكريم أن هذا الخطاب حيلة شيطانية ووسيلة نابعة من الجبن والنفاق، فقد أخبر الله تعالى عن التخاذل الشيطاني بقوله: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال: 48)، ويأتي تخاذله مرة أخرى في قوله تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (الحشر: 16).
أما دور الجبن في صناعة الخطاب المتخاذل فيصوره قول الله تعالى في وصف اليهود: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) (البقرة: 96)، فهم لا يتقدمون إلى مواطن القوة التي يبذلون فيها أرواحهم، بل يتخاذلون، كما فعلوا مع سيدنا موسى عليه السلام حين أمرهم بالدخول إلى الأرض المقدسة، فتخاذلوا وقالوا له: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة: 24).
وأما دور النفاق في صناعة الخطاب المتخاذل فيصوره قول الله تعالى: (أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {11} لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ) (الحشر)، فقد خذل المنافقون اليهود بعد أن وعدوهم بالنُّصرة، ولم يكن خذلان المنافقين مقصوراً على اليهود فقط، وإنما امتد إلى المسلمين أيضاً، ففي غزوة «الأحزاب» حاول المنافقون الفرار من القتال، وتعالى خطابهم المتخاذل في صور شتى، منها، قولهم: (مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (الأحزاب: 12)، وقولهم: (إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ) (الأحزاب: 13)، وقد كشف الله تخاذلهم بقوله: (وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً) (الأحزاب: 13).
المنافقون خذلوا اليهود بعد وعدهم بالنُّصرة ولم يكن ذلك مقصوراً على اليهود وإنما امتد إلى المسلمين
وفي غزوة «أحد»، خرج الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من أهل المدينة لملاقاة المشركين، حَتَّى إذَا كَانُوا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَ«أُحُدٍ»، انْخَذَلَ عَنْهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بن سَلُولَ بِثُلُثِ النَّاسِ، وَقَالَ: مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَرَجَعَ بِمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ(1)، وفي هذا نزل قوله تعالى: (وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ {167} الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (آل عمران).
وقد حذّر الله المؤمنين من هذا الخطاب المتخاذل فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (آل عمران: 156)، وفي هذا تأكيد على ضرورة التخلي عن الخطاب المتخاذل وعدم الترويج له.
التوظيف النفسي:
أكدت الدراسات النفسية أن النفس قد تنكمش وتتخاذل، فينشأ من هذا التخاذل ضَعْف الثقة بالنفس، وتتكون على مرِّ الزمان عقدة الضعة أو الصَّغار(2)، كما يؤدي التخاذل والخنوع إلى شيوع الاستبداد والطغيان(3)؛ ذلك أن التخاذل يفتح الباب أمام المستبدين للطغيان والفساد، لأنهم لا يجدون إنكاراً أو مواجهة.
التوظيف الدعوي:
يسعى الداعية إلى مواجهة الخطاب المتخاذل؛ لأنه ينبع من الضعف الإيماني والهزيمة النفسية، ويسوق إلى الانكسار والهزيمة الواقعية، ويمكن للداعية أن يواجه الخطاب المتخاذل بأمرين:
الأول: تضييق دائرته والرد عليه في موضعه وعدم الترويج له، وهذا يكون بإخماده حتى يموت في مكانه، فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن لله عباداً يُمِيتُون الباطل بِهَجْرِه، ويُحْيُون الحق بِذِكْرِه(4)؛ ففي هذا تحذير من قول الباطل، وإن كان على سبيل التحذير منه، فإن في ذكره إشاعة له، فلو أن كل إنسان رأى باطلاً أخفاه وسكت عنه؛ لمات في مكانه، ولم يصل إلى أوسع من دائرته، ولهذا قال الإمام مسلم: الإعراض عن القول المُطَّرَحِ (يعني الفاسد) أحرى لإماتته، وأجدر ألا يكون ذلك تنبيهاً للجُهَّال عليه(5).
فإن الجهال والمنهزمين يتلقفون هذا الخطاب ويشيعونه تسلية لهم وبحثاً عن معذرة تريح نفوسهم، أما الكائدون فيشيعون هذا الخطاب تحقيقاً لأغراض خبيثة تملأ نفوسهم وتخرج من أفواههم، وهذا لا يعني أن نسكت على الخطاب المتخاذل تماماً، بل نواجهه في مكانه وفي دائرته الضيقة، دون أن ننقله إلى دائرة أوسع منها، ويدل على هذا، ما حدث حين ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وانطلق إلى عبدالله بن أبي بن سلول، فقال عبدالله: إِلَيْكَ عَنِّي، لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ(6)، إنه الرد المناسب في الوقت المناسب.
على الداعية منع الخطاب الذي يثبط العزيمة ويخفض الهمة والقعود عن الجهاد والنصرة
وأما الأمر الثاني في مواجهة الخطاب المتخاذل فهو إشاعة خطاب الجهاد والنصرة وعلو الهمة، ومنه ما كان يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم في ميادين الجهاد: «سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ وَعَدَنِي إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاَللَّهِ لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ»(7)، وقوله في الحث على الجهاد: «قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض»(8).
وعندما واجه المسلمون الروم في غزوة «مؤتة» بلغهم أن عدد الرومان بلغ مائتي ألف مقاتل، وعدد المسلمين ثلاثة آلاف، فنظر المسلمون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله ونُخْبِرُهُ بِعَدَدِ عَدُّونَا، فَإِمَّا أَنْ يَمُدَّنَا بِالرِّجَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَنَا بِأَمْرِهِ فَنَمْضِيَ لَهُ، فقام عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَقَالَ: يَا قَوْمِ، وَاللَّهِ إِنَّ الَّتِي تَكْرَهُونَ لَلَّتِي خَرَجْتُمْ تَطْلُبُونَ الشَّهَادَةُ، وَمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ بِعَدَدٍ وَلَا قُوَّةٍ وَلَا كَثْرَةٍ، مَا نُقَاتِلُهُمْ إِلَّا بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِهِ، فَانْطَلِقُوا فَإِنَّمَا هِيَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ؛ إِمَّا ظُهُورٌ وَإِمَّا شَهَادَةٌ، فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ وَاللَّهِ صَدَقَ ابْنُ رَوَاحَةَ، ثم مضوا إلى الجهاد(9)؛ وفي هذا دليل على أن خطاب التشجيع والتقوية والجهاد والنصرة يسري في نفوس الناس، فيحييها بالعزيمة والقوة ويقودها إلى الانتصار والعزة.
الدليل على التأثير الناجح:
لقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل في الحرص على حجب الخطاب المتخاذل؛ حرصاً على نفسية الناس، وسعياً إلى رفع همتهم وتقوية عزيمتهم.
ومن ذلك ما كان في غزوة «الأحزاب»، التي تكالب فيها المشركون على المدينة المنورة، وحشدوا عشرة آلاف مقاتل، من أجل القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وقد ابتلي المسلمون في هذه الغزوة ابتلاء شديداً، وذلك أن أخباراً تسربت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يهود بني قريظة قد نقضوا العهد، وانحازوا إلى المشركين، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، وقال: «اذهبوا فانظروا، إن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فأعلنوه، وإن كانوا على ما بلغنا عنهم فَالْحَنُوا لِي عَنْهُمْ لَحْناً أَعْرِفُهُ، وَلَا تَفُتُّوا فِي أَعْضَادِ الْمُسْلِمِينَ»، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِمْ وَجَدُوهُمْ عَلَى أَخْبَثِ مَا بَلَغَهُمْ، حيث نقضوا عهدهم، فرجع الصحابة إلى رسول الله، وقالوا: عضل والقارة؛ أي: غدروا كغدر عضل والقارة، وهي القبائل التي غدرت بالمسلمين عند ماء الرجيع؛ فحزن النبي صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً لهذا الخبر، حتى إنه تقنع بثوبه؛ أي: غطى رأسه بالثوب، ومكث طويلاً يفكر ما الذي سيحصل؟ وبعد ذلك رفع رأسه فجأة، وقال للمسلمين بصوت عال: «الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله ونصره»(10).
إنه يحجب الخبر السيئ، ويمنع الكلام الذي يسبب الضعف والهزيمة في النفوس، وينادي بالبشرى من أجل رفع همة أصحابه.
ومما يدل على التأثير الناجح لحجب الخطاب المتخاذل ما كان في غزوة «حنين»، حيث هجم المشركون على المسلمين من خلف الجبل، فتفرق المسلمون، ورأى ضعاف الإيمان هزيمة المسلمين، فصاح بعضهم يقول: لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ البَحْر، وقال آخر: أَلَا بَطَلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ! وهنا وقف صفوان يقول له: اسكت، فضَّ الله فاك(11).
ووقف النبي صلى الله عليه وسلم يواجه هذا الخطاب المتخاذل، فقال لعمه العباس: «اصرخ، يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب السَّمُرَةِ»، فأجابوا: لبيك، لبيك، وأقبلوا نحو الصوت، حتى انتهوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يركض بغلته نحو الكفار، قائلاً: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبدالمطلب»، فاجتلد النَّاس؛ يعني تقووا حتى انتصروا(12).
ففي النداء على الأنصار، أصحاب البيعة على النصرة، وعلى أصحاب السمرة؛ يعني أصحاب بيعة الرضوان، يخاطب فيهم مواقف الرجولة والانتصار، حتى يعيدها إلى أذهانهم في مواجهة الخطاب المتخاذل، فما كان منهم إلا أن عادوا وانتصروا.
إن الخطاب المتخاذل نابع من الهزيمة النفسية أو الأغراض الخبيثة، وهو يسعى إلى إضعاف العزيمة وتوهين القوة، فعلى الداعية أن يحجب هذا الخطاب ويقطع الطريق أمام الترويج له، ويفسح المجال أمام خطاب الجهاد والنصرة وعلو الهمة.
_______________________
(1) سيرة ابن هشام، (2/ 64).
(2) علم النفس الأدبي، حامد عبدالقادر، ص 27.
(3) علم نفس الشخصية، كامل عويضة، ص 97.
(4) حلية الأولياء، أبو نعيم الأصبهاني، (1/ 55).
(5) صحيح مسلم، (1/ 22).
(6) متفق عليه، البخاري (2545)، ومسلم (1799).
(7) سيرة ابن هشام، (1/ 615).
(8) صحيح مسلم (1901).
(9) البداية والنهاية، ابن كثير، (6/ 416).
(10) دلائل النبوة، البيهقي، (3/ 430).
(11) سيرة ابن هشام، (2/ 445).
(12) سيرة ابن هشام، (2/ 445).