تفترض دورات الكون في حياة الفرد والمجتمع أن يمر بمراحل مُتعاقبة من الازدهار والانهيار، أو على حد قول إخوان الصفاء، فإن لكل دولة وقتاً منه تبتدئ، وغاية إليها ترتقي، وحداً إليه تنتهي، فإذا بلغت إلى أقصى غاياتها ومدى نهاياتها؛ تسارع إليها الانحطاط والنقصان، وبدا في أهلها الشؤم والخذلان، واستأنف في الآخرين من القوة والنشاط والظهور والانبساط، وجعل كل يوم يقوى هذا ويزيد، ويضعف ذاك وينقص إلى أن يضمحل الأول المقدم ويستمكن الآتي المتأخر.
ولذلك، فإن الفرد والمجتمع يجدر بهما أن يتعلما من الأفعال والقدرات والمهارات ما يؤهلهم جميعاً لخوض مراحل العمران على حد قول ابن خلدون، وأن يتم تفعيل مفهوم التدبر القرآني في سنن الكون وسير الأولين، التي منها يستخلص الإنسان العبر والدروس، ويعد العتاد والعدة من أجل فهم وإدراك طبيعة مرحلة الأزمة وسماتها والكيفية التي يجب التعامل بها مع ظروفها وملابساتها؛ كي يتمكن الفرد والمجتمع من التكاتف لخوض مرحلة الأزمة والمرور منها بسلام، لاستعادة دور الأمة في الإسهام الحضاري والعطاء الفكري والثقافي.
الخطاب والأزمة
ويشير مفهوم الأزمة إلى موقف يمر به الفرد أو المجتمع يتسم بالاضطراب والشدة، ويمثل نقطة تحول في مسيرة التطور إلى الأفضل أو إلى الأسوأ، بما يجعلها (الأزمة) تحمل في طياتها إمكانات الفرصة أو أخطار الفشل في الوقت نفسه، وتأخذ معناها من إدراك الفرد أو المجتمع لماهية الموقف المأزوم والوضع أو الحالة التي يمر بها، ومن ثم التعامل معها بحكمة يجعلها مرحلة تؤهل للانتقال للأفضل، أو إشكالية طويلة الأمد تعمل على تعقيد الموقف واستمراره لفترة أطول.
ويعد الخطاب المتبنى وقت الأزمات من جانب الفرد والمجتمع من ناحية، ومن جانب القيادات من ناحية ثانية، من أهم العوامل الرئيسة التي تسهم في نجاح الأمة في المرور من أوقات الأزمات بأقل قدر من الخسائر وأكبر قدر من الاستفادة والعبر، إذ يسهم الخطاب بأدوار متعددة في إتاحة المجال لشحذ الهمم وإنهاض العزائم وزرع الأمل والتفاؤل والصبر والإصرار في نفوس الأفراد، ومن أهم الأدوار التي يؤديها الخطاب الناجح والفعال في وقت الأزمات:
– بث روح الصبر والعزيمة في نفوس الأفراد بما يجمع الجهود المجتمعية للتكاتف في وجه الأزمات، ويعزز من نبذ مظاهر الفرقة والتشرذم والصراع التي قد تطيل من وقت الأزمة.
– زرع بذور التفاؤل والأمل بما يقوي الأفراد والمجتمعات على الصمود أمام الشدائد، ومن ثم يرفع احتمالات النجاح في المرور من الأزمات بسلام ودون خسائر نفسية.
– شحذ همم أبناء المجتمع على بذل الجهد ومضاعفة العمل، مما يرفع من إمكانية النجاح في الخروج من المحنة ويعجل بانفراج الأزمات.
– الرد على المتخاذلين والمتشائمين والمتشككين وردع الإشاعات والأكاذيب التي قد تعمل على تثبيط الهمم وإفشال جهود العمل والصمود.
– إثارة الحماس والعاطفة التي تحفز أبناء المجتمع على اتباع التعاليم الدينية والمبادئ الأخلاقية التي تحض على العمل والتكاتف والمحبة بين أفراد المجتمع وقت الأزمات.
الأزمة والفتنة في المنظور القرآني
وردت الأزمات والفتن في الخطاب القرآني في عدة مواضع كإشارة لأوقات يمر بها الإنسان بشكل حتمي عبر حياته، وكمرحلة من مراحل صعود الأمم وانكفائها كتعاقب الليل والنهار على الأرض، وهي أوقات يمر بها المؤمن والفاسق على السواء، يُبتلى بها المؤمن فيُثاب عليها ويتعلم منها العبر والدروس، ويُفتن بها الفاسق في دينه ودنيته.
وعن أوقات الأزمات، يقول الهدي القرآني واصفاً إياها: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155)، وتُعبر تلك الإشارة القرآنية عن الأزمات باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من حياة البشر، وفي موضع آخر: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) (الأنعام: 42).
وقد أورد الخطاب القرآني إرشادات للمؤمنين في كيفية التعامل مع الأزمات، فوجههم لحُسن التعامل مع المحن باعتبارها فرصة لاغتنام الحسنات والصبر على الشدائد، ونهى عن الحزن: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (آل عمران: 139)، كما أمر الخطاب القرآن عباده المؤمنين بانتهاز أوقات المحن لتعلم الصبر وطلب المغفرة: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ {146} وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (آل عمران)، وطالب الخطاب القرآني من المؤمنين وقت الأزمة التوبة إلى الله والرجوع إليه كمخرج من المحن: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) (البقرة: 156)، (فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء: 87).
والأزمة في الخطاب القرآني تدل بشكل رئيس على اختبار إلهي لعباده يجب أن يخوضوه لإعلان تسليمهم لله وانقيادهم لدينه: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت)، فالأزمة اختبار لقوة الإيمان والصدق مع الله وفرصة للتوبة، ومرحلة للتغير نحو الأفضل يجدر بكل إنسان مؤمن أن يغتنمها لتحقيق إيمانه وتمحيص التزامه، ومن أهم الإرشادات في الخطاب القرآني للتعامل مع الأزمات:
– التوبة إلى الله والعزم على الصدق والالتزام.
– تجنب الحزن والوهن والسعي لتجاوز الأزمة بقوة وثبات.
– تدبر سُنن الكون وسير الأولين لتحقيق استفادة قصوى وأخذ العبرة، واتباع منهجية علمية لتجاوز الأزمات والتعامل معها.
– التكاتف والتعاون فيما بين أعضاء المجتمع الذي أشار إليه الهدي النبوي بأنه كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
– الصبر والثبات في تحمل وقت الأزمة والتعامل معها بحكمة وإيمان.
وأخيراً، فإن المؤمن الحق في الهدي الإسلامي هو الذي يرى في المحنة فرصة سانحة للاغتنام وتمحيص الإيمان وحيازة الثواب، ووسيلة لبذل الجهد والسعي لتعمير الأرض وتطهير الكون من الفساد، والخطاب الإيجابي الذي يتعامل مع الأزمات باعتبارها مرحلة طبيعية طارئة يمر بها الجميع هو العامل الأهم في تجاوز الأزمة، والتأثير في الآخرين لتحقيق تآزر وتكامل اجتماعي يوحد الجهود ويجمع الهمم، وبدون ذلك الخطاب الداعم تُصبح الأزمة إشكالية مُعقدة وتتفتت الجهود في التعامل معها مما يطيل من عمرها ويُعقد من إمكانات الحل.