لا يعرف السودان بطبيعته السمحة جرائم القتل البشعة ولا اغتصاب النساء، فهذه خطوط حمراء لا يقبلها المجتمع المسلم هناك؛ لذلك كان مستغرباً، عقب السقوط الغامض لمدينة «وَدْ مَدَنِي» وسط السودان التي تبعد عن العاصمة الخرطوم بحوالي 180 كيلومتراً جنوباً، أن نشهد جرائم اغتصاب وقتل ونهب غير معتادة.
دخول «قوات الدعم السريع» بقيادة عبدالرحيم دقلو مدينة ود مدني، التي تقع على ضفة النيل الأزرق الغربية بمشروع الجزيرة الزراعي الشهير، وسقوط المدينة التي هي إحدى أكبر وأهم المدن السودانية، وتعد نقطة وصل بين ولايات البلاد؛ طرح تساؤلات حول ما جرى.
جرائم «الدعم السريع» داخلها هي وغيرها من المدن التي استولوا عليها، وخاصة اغتصاب النساء، أثار تساؤلات أكبر حول من يقوم بهذه الجرائم؟ ولماذا؟ ومن يقف وراءهم؟ وهل حدثت خيانة داخل الجيش السوداني ورشى لبعض قادته بواسطة «الدعم السريع» ودول خارجية؟ وهل تصعيد جرائم الاغتصاب والنهب المسلح مقصود لترويع السودانيين أم مقصود من أطراف خارجية أرسلت مرتزقة أفارقة لدعم قوات حميدتي، من أجل تنفيذ مخطط مشبوه لتقسيم السودان وإثارة عدم الاستقرار في دول مجاورة مثل مصر، وتقف وراءه هذه الدول الخارجية بالسلاح والمال، وبينها إثيوبيا ودولة خليجية ودول غربية؟
وهل نضجت طبخة تقسيم السودان التي كانت تجري على نار هادئة، ولكن مشتعلة، وقد نرى «3 سودانات» بدل السودان الواحد؛ واحدة استقلت بالفعل في الجنوب بفعل مؤامرات الغرب والكنيسة الغربية، والثانية يقودها حميدتي، والثالثة يقودها البرهان؟
حديث لأطراف سودانية عن احتمالات لدفع رشى لقادة بالجيش للانقلاب على البرهان
ويقاتل الجيش و«قوات الدعم السريع» من أجل السيطرة على السودان منذ أبريل 2023م، بعدما اختلف قائدا الطرفين على مسألة ضم «الدعم السريع» للجيش وقيادة السودان.
سر السقوط السريع!
كان إعلان الجيش السوداني رسمياً، في بيان، في 19 ديسمبر 2023م، أن قواته انسحبت من مواقعها في مدينة «ود مدني» مرتبطاً بعبارة مهمة تقول: «إنه سيحقق في أسباب الانسحاب»؛ وهو ما دفع مراقبين للحديث عن احتمال رشوة قادة بالجيش من قبل «الدعم السريع» أو أطراف خارجية؛ حيث تحدثت أطراف سودانية عبر موقع التواصل عن احتمالات كبيرة لدفع رشى لقادة بالجيش للانقلاب على عبدالفتاح البرهان، بل ترددت أنباء عن انقلاب عسكري ضده بالفعل دون أي تفاصيل.
مع هذا، تشير مصادر سودانية لضعف التعزيزات العسكرية في ود مدني ووجود أخطاء عسكرية؛ مشيرة لأن الجيش قاتل قوات حميدتي قبل أن ينسحب خشية تزايد خسائره؛ حيث يقول الباحث في العلاقات الدولية أحمد دهشان، عبر «إكس»: إن الجيش السوداني، ورغم كل الانتقادات المحقة في الكثير منها من قبل بعض السودانيين، يقاتل بمفرده في هذه المعركة، بلا أي سند أو داعم أو حليف حقيقي، والدول العربية تركته يحارب وحده.
الجيش السوداني، ورغم كل الانتقادات المحقة في الكثير منها من قبل بعض الأشقاء السودانيين، لكنه يقاتل بمفرده في هذه المعركة، بلا أي سند أو داعم أو حليف حقيقي!
أعتقد لم يحدث منذ استقلال #السودان أن كانت السياسية المصرية بهذا الشكل المروع من الضعف والاستسلام، وصولا لترك الجيش الذي…
— Ahmed Dahshan (@ahmdahshan) December 18, 2023
ويبدو أن أنباء هذا الانقلاب داخل الجيش أو الاشتباه في وجود خيانة وربما رشى لجنرالات كانت وراء الرسالة التي وجهها علي كرتي، الأمين العام للحركة الإسلامية، للجيش يوم 19 ديسمبر 2023م، التي دعاه فيها لمصارحة الشعب بالحقائق، ودعا للالتفاف حول الجيش وقيام قادته بتسليح متطوعين لردع التمرد الذي تقوم به قوات حميدتي الذي تصاعد بالاستيلاء على مدن جديدة بفعل تحركات خارجية تستهدف إبعاد التيار الإسلامي عن الحكم في ظل إعلان الحركة الإسلامية دعمها للجيش.
«الصحة العالمية»: أكثر من 4 ملايين امرأة يتعرضن لخطر العنف الجنسي بأنحاء السودان
ومنذ بداية الصراع، وقفت القوى اليسارية وبعض الليبراليين مع قوات حميدتي بدعاوى أنه يقف مع الديمقراطية وتولي المدنيين الحكم، وبعدما هاجم حميدتي الإسلاميين، وزعم أنه يحارب «الإخوان المسلمون» داخل الجيش لا الجيش نفسه!
لماذا الاغتصاب؟!
منذ سيطرتها على عدة مدن بينها مناطق في الخرطوم، انتشرت اتهامات لقوات «الدعم السريع» بنهب منازل واغتصاب نساء وقتل واعتقال تعسفي، ومارست النهب وسرقة السيارات، بل سرقت مصنع سكر «الجنيد» الذي يعد من أكبر مصانع السكر في السودان.
لكن سكان مدينة «ود مدني» وقبلها مدن أخرى في دارفور وغيرها اشتكوا من قيام مليشيا «الدعم السريع» بممارسة أبشع الجرائم بحق المواطنين الأبرياء وخاصة اغتصاب النساء؛ وبسبب ذلك تصدر وسم «أنقذوا السودان واحموا النساء من الاغتصاب» على موقع التواصل الاجتماعي «إكس»، وقال سودانيون: إن من يقوم بالاغتصاب غالباً هم مرتزقة تم توظيفهم ضمن «قوات الدعم السريع» من قبل قوى خارج السودان، من تشاد ومالي وغيرهما.
وشهدت منصات التواصل منذ سيطرة «الدعم السريع» على مدينة «ود مدني» مشاركات من النساء حول تخوفهن من التعرض للاغتصاب، وتداول العديد من رواد مواقع التواصل شكاوى عديدة وروايات عن تزايد حالات الاغتصاب التي تعرضت لها نساء في السودان.
ومنذ اندلاع النزاع المسلح في السودان بين القوات المسلحة السودانية و«قوات الدعم السريع»، في 15 أبريل 2023م، كشفت عدة تقارير أن الأخيرة اغتصبت عشرات النساء والفتيات، وسلط تقرير للمركز الأفريقي لدراسات العدالة والسلام، نشره «راديو دبنقا»، في 24 نوفمبر 2023م، الضوء على نمط محزن للعنف القائم على النساء، ووصفه بأنه «سلاح حرب»!
كما وثقت منظمات نسائية أكثر من 120 حالة اغتصاب مؤكدة حتى أكتوبر 2023م، وأكدت منظمة الصحة العالمية أن هناك أكثر من 4 ملايين امرأة وفتاة يتعرضن لخطر العنف الجنسي في جميع أنحاء السودان.
محللون: أغلب جرائم اغتصاب النساء يقوم بها مرتزقة أفارقة يقاتلون مع «الدعم السريع»
وذكرت منظمة «هيومن رايتس ووتش»، في وقت سابق، أن مليشيا «الدعم السريع»، ومليشيات متحالفة معها في السودان اغتصبت عشرات النساء والفتيات في الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور، ووفقاً لبيان مشترك أصدرته هيئات الأمم المتحدة، فإنها تلقت تقارير مروعة عن العنف الجنسي ضد النساء والفتيات في السودان، بما في ذلك الاغتصاب، وذكر البيان أن العنف الجنسي بات يستخدم كتكتيك من أساليب الحرب لإرهاب الناس في السودان!
وفي أغسطس 2023م، أعرب خبراء الأمم المتحدة عن قلقهم إزاء تقارير تكشف عن الاستخدام الوحشي والواسع النطاق للاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي من قبل مليشيا «الدعم السريع»، مؤكدين احتجازها مئات النساء في ظروف غير إنسانية أو مهينة، وتعرضهن للاعتداء الجنسي، وهن عرضة للاستعباد الجنسي.
وقال خبراء الأمم المتحدة: إن مليشيا «الدعم السريع» يستخدمون الاغتصاب والعنف الجنسي ضد النساء والفتيات كأدوات لمعاقبة وترهيب المجتمعات، وبحسب هؤلاء الخبراء، فإن بعض حالات الاغتصاب المبلغ عنها تبدو ذات دوافع عرقية وعنصرية؛ حيث يتم اغتصاب نساء قبائل أخرى تختلف عن قبائل منتسبي «الدعم السريع».
لكن محللين سودانيين يرون أن أغلب هذه الجرائم الوحشية ضد النساء خصوصاً يقوم بها مرتزقة أفارقة يجري استئجارهم للقتال مع «الدعم السريع»، وأنهم ليسوا سودانيين، ولكنهم مرتزقة ممولون يرتكبون أفظع الجرائم ومنها اغتصاب النساء.
ويرى مراقبون أن دخول «الدعم السريع» ولاية الجزيرة قد يفتح الطريق إلى شرق السودان وميناء بورتسودان الذي يتحصن فيه قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان، واتخذته الحكومة مقراً لها بدل الخرطوم، معتبرين احتلال «ود مدني» يفتح الطريق للوصول إلى مدى عسكري أبعد وتهديد وجود قيادة الجيش والحكومة وكبار المسؤولين في شرق السودان.