تتميز كل حضارة إنسانية على الأرض بمنتج تراثي ما كمحدد لمعالمها وقواعدها التي بنيت عليها من الأساس، وكلما كان العمق الحضاري قوياً ومتيناً وشاملاً؛ كان المنتج إنسانياً ومتكاملاً، بمعنى أن هناك منتجاً حضارياً يعتمد فقط على المادة والتركيز على الوصف الحسي للإنسان، فنجد أن فنون التشكيل توقفت عند تماثيل شبه متجردة دون مراعاة أي جانب أخلاقي أو سقف لما يسمى مجازاً بالإبداع، وغالباً سوف تجد تلك الحضارة مندثرة، احتلت جزءاً من التاريخ ثم سقطت بغير عودة، منها على سبيل المثال الحضارات اليونانية والرومانية.
وبإجراء أي مقارنة بسيطة، لن تجد حضارة قديمة حملت في طياتها علامات البقاء مثل الحضارة الإسلامية؛ لأسباب أهمها أنها استندت إلى عامل آخر غير العامل الإنساني أو المادي، وهو العامل السماوي المستند إلى دين تعهد الله سبحانه وتعالى بحفظ كتابه بعدما عبثت البشرية بكتبها السماوية وطالتها يد التحريف، فعبر المنتج الحضاري عن عبادة شركية في مجملها تنافي الشرائع السماوية وتشبع الجانب المادي من النفس الإنسانية وحده دون الجانب الروحي.
وفي وقت تهدد فيه المنطقة بدولها العربية والإسلامية بحروب شاملة استطاعت في بدايتها أن تقضي على جانب كبير من المنتج الحضاري المعماري والمرتبط بالحضارة الإسلامية في بلاد مثل فلسطين واليمن وسورية والعراق، وهي مرشحة للزيادة لنفس السبب، فإن التراث الإسلامي تعرض لعمليات فقد لم تحدث في الاجتياح التتري أو الصليبي للمنطقة، وأصبح لزاماً على المعنيين بالأمر القيام بعمليات موسعة من التدوين والتصوير والاستعانة بالمنظمات الدولية مثل «يونسكو» للحفاظ عليه أو ما تبقى منه، حيث إنه لا يخص الحضارة الإسلامية الفريدة وحدها، وإنما يخص كافة المهتمين بالتاريخ الإنساني على المستوى العالمي.
وانطلاقاً من هذا الهدف، فإن مجلة «المجتمع» الكويتية سوف تساهم في هذه القضية بالتعريف بجانب من هذا المنتج الحضاري على مدى شهري شعبان ورمضان كجانب مادي بوصف أسس المعالم الحضارية في بعض الأقطار العربية والإسلامية، ثم بالتعريف بالسلوك الإنساني كعادات المسلمين وطباعهم في بعض البلاد التي فقدت أو المهددة بالفقد وما خسرته الإنسانية نتاج ذلك.
ثم أخيراً بالجانب الروحي التي بنيت على أساسه تلك المعالم التي تتسم بـ6 خصائص عامة سوف تنبني عليها محددات التعريف على مدى شهرين كريمين، وذلك من خلال عدة مراجع اهتمت بالمجال التراثي سوف نستخلص منها ما يعرف القارئ المهتم والباحث المتميز بأهم المعلومات في هذا الخضم، ومن هذه المراجع المتميزة في مجال وصف خصائص العمارة الإسلامية القديمة كتاب «العمارة الإسلامية خصائص وآثار» للباحث الفلسطيني بجامعة الأقصى أحمد السراج.
وضع الباحث قواعد خصوصية العمارة الإسلامية ومنطلقاتها في 3 نقاط أساسية، وهي:
الأولى: اقتصاد في النفقة: فنظرة الفنان المسلم للإنفاق تختلف عن غيره في الحضارات الأخرى، حيث إن العمارة مهما بلغت قيمتها فهي أثر دنيوي لا يجب فيه الإسراف المادي والبذخ، كذلك الاقتصاد في استخدام المواد البيئية، فغالباً كل منتج حضاري إسلامي عبر عن بيئته الجغرافية وخاماته المحلية، فلا يتكلف نقل مواد من مكان لمكان إلا في حدود ضيقة ارتبطت في معظمها بأنظمة حكم استبدادية فأنفقت أموالاً في غير محلها وكان المسلمون أولى بها.
الثانية: حاجة في الوظيفة: فالحاجة واستخدام الأثر هو السبب الأول لبنائه، فليس هناك إنفاق وبناء لمجرد الزينة، فلا مجال لمساحة زائدة بلا نفع، ولا ارتفاع بلا حاجة في المسكن والمسجد والقلعة وغيرها مناسبة لوظيفتها المعمارية على المستويين الفردي والجماعي، على المستوي الفردي بتحقيق مبدأ الخصوصية وستر الحريم وحفظ الأبناء، وعلى المستوى الاجتماعي لتحقيق أقوى قدر من الترابط الاجتماعي في حارات مغلقة تجمع الأقرب فالأقرب من الإخوة وأبناء العمومة والأقارب، وقرى وأحياء ومدن تجمع القبائل والعشائر والطوائف المتماسكة، كما تساعد أبواب الحارات والأحياء المغلقة في الحروب والتعامل مع الأعداء في حروب الشوارع، على عكس العمارة الأوروبية بالواجهات الزجاجية التي لا خصوصية فيها، فالمدينة الإسلامية كائن حي له قلب هو المسجد يتفرع منه شوارع مترابطة بشكل عجيب.
الثالثة: بساطة وتناسق في الجمال: وقاعدة اختيار النسق الجمالي هي الزينة المباحة والمتاحة والنابعة من قوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف: 32)، فالتناسق العضوي بين أجزاء وعناصر العمارة (الأبواب، الغرف، القناطر، الأعمدة، الأسقف) أساس الزينة الكلية، كما أن رشاقة ومرونة العنصر في ترابطه مع أخيه، وانتقال العين بينها بسلاسة هو الزينة الجزئية.
وهناك 6 خصائص عامة تميز العمارة الإسلامية من وجهة نظر الباحث، وهي:
1– الشمولية: أنها عمارة شاملة لكل جوانب الحياة، تقوم على البساطة في العموم والتعقيد في الخصوصيات وتهتم بكل تفصيل(1).
2– الخصوصية: فهي تقيم للذات الإنسانية خصوصيتها وتفردها، ولذلك فهي تراعي خصوصية الرجل والأنثى والطفل والحاكم(2)، على عكس العمارة الغربية التي تتعامل مع الناس بدون فروق فردية، وهذا واضح في عمارة القرن العشرين ومدارسها الحديثة.
3- البيئية: حيث علاقة العمارة الإسلامية بالبيئة المحلية، بل العالمية، علاقة عضوية حيث البناء بالمواد المحلية التي يسهل إعادة تدويرها في البيئة كالطين والصخور والخشب عكس العمارة الغربية القائمة على مشتقات كيماوية وصناعية تضر البيئة في وجودها وفي تدويرها، بل غير قابلة للتدوير كالبلاستيك واللدائن(3)، وهي بهذا عمارة نظيفة اقتصادية نقية.
4– الوظيفية: حيث تقوم على مبدأ إشباع الحاجة الحياتية فيتم بناء ما يحتاجه الإنسان فعلاً بلا زيادة ولا نقصان حسب ما تعارف عليه الناس، يقول قدومي: اعتمد فقهاء المسلمين في تناولهم أحكام البنيان على آية وحديث، أما الآية فهي قول الله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف: 199)، ويفسرون العرف بالنسبة لأحكام البنيان بما يجري عليه الناس وارتضوه، ولم يعترضوا عليه، طالما لا يتعارض مع القرآن الكريم أو الحديث الشريف، والعرف يحتمل 3 معان بالنسبة للبيئة العمرانية؛ الأول: هو ما يقصده الفقهاء من استنباط الأحكام فيما ليس فيه نص من المسائل العامة التي تؤثر في البيئة العمرانية لعادة أهل بلد ما، والثاني: هو الأكثر تأثيراً؛ فهو إقرار الشريعة لما هو متعارف عليه بين الجيران لتحديد الأملاك والحقوق، والثالث: الأنماط البنائية؛ وهو أكثرها تأثيراً في البيئة العمرانية، أما الحديث فهو «لا ضرر ولا ضرار»(4)، وكما أن الخاصية البيئية خاضعة للناحية الفقهية والعرفية (الاجتماعية) حيث تقوم على جلب المنافع ودفع المضار.
5– الجمالية: وهي إظهار الزينة وإسباغها على العمائر بما لا يتعارض مع الشرع، وقد التزم المعماريون المسلمون بتحريم الصور في العمارة الدينية (الشعائرية) كالمساجد ودور القضاء، بينما تساهلوا في تصوير الكائنات الحية في العمائر السلطانية كالقصور وفق مفهوم الآية: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف: 32).
6– الزهد: تحريم الإسراف أو التبذير في بناء ما لا حاجة إليه أو المبالغة في الزينة أو الرياء بها، وذلك لإيمان المؤمن أن الدنيا فناء والعاقبة للتقوى، وأن هذه العمائر تتعلق بها القلوب.
تلك هي أهم خصائص العمارة الإسلامية التي سوف نتناولها تفصيلاً في حلقات قادمة كمعالم يجب ألا تغيب.
_________________________
(1) عثمان 21 وما بعدها.
(2) محمود شاكر 97-9 وما بعدها.
(3) فتحي 10 وما بعدها.
(4) حديث حسن أخرجه ابن ماجه.