في يوليو 2018م، شغلت قضية خطف طفل من أحد أحياء القاهرة وطلب فدية من أهله الرأي العام، ووثقت إحدى كاميرات المراقبة المثبتة في الشارع الواقعة والسيارة المستخدمة فيها؛ ما أدى إلى اكتشاف الجناة والتوصل للخاطفين، كما كشفت كاميرات المراقبة واقعة مقتل طفلين بميت سلسيل، حيث أثبتت ارتكاب «م. ن» جريمة قتل طفليه عن طريق إلقائهما في نهر النيل، ورصدت اصطحابهما له بسيارته إلى مكان الحادث.
لا شك أن كاميرات المراقبة في شوارع المدن والأحياء، بل القرى، أدت إلى انخفاض معدل الجريمة، وتؤدي دورًا حيويًا في كشف الجرائم، وتحديد هوية القائمين عليها.
ولا يستطيع أحد إنكار أن كاميرات المراقبة نجحت خلال السنوات الماضية في كشف العديد من الجرائم.
ولكن، هل الأماكن التي تخلو من كاميرات مراقبة متروكة هكذا بلا رقيب ولا حسيب؟!
إن القارئ الجيد للقرآن الكريم، وتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم، يعلم تمام العلم أنه مصحوب بكاميرات مراقبة لا تنفك عنه ولا تتركه أبداً في أي مكان، وأولها استشعار مراقبة الله تعالى له، حيث أثبت الله تعالى مراقبته للعباد في الكثير من الآيات القرآنية، قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء: 1)، وقال سبحانه: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً) (الأحزاب: 52)، وقوله عز وجل: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (يونس: 61).
لما فهم سلفنا الصالح هذه المعاني استشعروا معية الله ومراقبته دوماً، فعن محمد بن علي الترمذي قال: «اجعل مراقبتك لمن لا يغيب عن نظره إليك، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه» (حلية الأولياء، 10/ 235).
أما الكاميرات الأرضية فهي موجودة أيضاً، ومنها:
الأولى: أعضاء الجسد:
فهذه كاميرا مصاحبة للإنسان في كل مكان وزمان، وعلى أي حال؛ في النوم واليقظة، في السفر والإقامة؛ قال تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النور: 24)، فمن حكمة الله تعالى أن جعل أعضاء جسده رقيبة عليه ليقيم الحجة عليه، حيث إن الإنسان يجادل بالحق والباطل إذا لم يجد حجة قوية تفحمه.
روى عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة، عرف الكافر بعمله، فيجحد ويخاصم، فيقال له: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك، فيقول: كذبوا، فيقول: أهلك وعشيرتك، فيقول: كذبوا، فيقول: احلفوا؛ فيحلفون، ثم يصمتهم الله، فتشهد عليهم أيديهم وألسنتهم، ثم يدخلهم النار» (أخرجه الطبراني وابن مردويه).
وعن أنس بن مالك قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: «أتدرون مم أضحك؟»، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: «من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: يا رب، ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: لا أجيز عليَّ شاهداً إلا من نفسي، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام عليك شهوداً فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بعمله، ثم يخلي بينه وبين الكلام، فيقول: بُعداً لكن وسحقاً، فعنكن كنت أناضل» (رواه مسلم).
الثانية: الملائكة الكتبة:
فما منا من أحد إلا ومعه ملائكة تصحبه في كل مكان تسجل عليه حركاته وكلماته وأفعاله، لقول الله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ {17} مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق)، كما قال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ {10} كِرَاماً كَاتِبِينَ) (الانفطار)، وفي هذه الآيات بيان أن كل عبد موكل به ملكان، يراقبان حركاته وسكناته، ويكتبان أفعاله، ويحصيان عليه كل ما يصدر منه، سواء كان عمل خير أو عمل معصية، وسواء كان في محل كريم أو مكان مهين بكيفية لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
لقد استشعر السلف الصالح هذه الرقابة؛ فأبدعوا في الورع وتحري مرضاة الله تعالى في خلواتهم، قال أبو عليّ الدقاق: «لو كنتم تشترون الكاغد -أي الورق- للحفظة، لسكتم عن كثير من الكلام»؛ أي لو كنتم تشترون الأوراق للملائكة الذين يكتبون أعمالكم وأقوالكم في صحيفتي الحسنات والسيئات لسكتم عن كثير من الكلام خشية إنفاق أموالكم! وأولى بكم أن تسكتوا خشية ذهاب حسناتكم وكثرة سيئاتكم.
الثالثة: الأرض:
إن الأرض التي سخرها الله لنا وجعلها ذلولاً لمن عليها هي كاميرا مراقبة تسجل كل ما يدور عليها من خير أو شر، حتى إذا كان يوم القيامة تشهد بما حدث على ظهرها، قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) (الزلزلة: 4)؛ أي: تخبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شر يومئذ، وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) قال: «أتدرون ما أخبارها؟»، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل يوم كذا كذا وكذا».
لذلك، فقد ذكر الإمام الطبري عند تفسيره لقول الله تعالى: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) (الدخان: 29)؛ ما ورد في الأثر أن رجلاً أتى ابن عباس، فقال: يا ابن عباس، هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ قال: نعم، إنه ليس أحد من الخلائق إلا له باب في السماء منه ينـزل رزقه، وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله، وينـزل منه رزقه، بكى عليه؛ وإذاً فقده مُصَلاه من الأرض التي كان يصلي فيها، ويذكر الله فيها بكت عليه، وإن قوم فرعون لم يكن لهم في الأرض آثار صالحة، ولم يكن يصعد إلى السماء منهم خير، قال: فلم تبك عليهم السماء والأرض.
فهم ابن عباس هذا المعنى من توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم حينما فكر بنو سلمة ترك ديارهم وشراء دور قريبة من المسجد تسهيلاً لهم في الانتقال ذهاباً وإياباً للمسجد وعند ذلك قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد»، قالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك، فقال: «بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم»؛ أي: الزموا دياركم الحالية، فقالوا: ما يسرنا أنا كنا تحولنا. (رواه مسلم).
إذن تكتب الآثار إلى المساجد، وتشهد الأرض لمن مشى عليها إلى الخير أو إلى الشر؛ (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (يس: 12).
إن تفكير المرء دوماً في هذه الكاميرات يردعه ويمنعه من اقتراف الإثم ويدفعه لفعل الخير وتسجيل الذكريات السعيدة التي تنجيه من عذاب الدنيا والآخرة، اقتداء براعي الغنم الذي مر به عبدالله بن عمر رضي الله عنه فقال له: يا راعي، أتبيعنا خروفاً؟ فقال له الراعي: هي ليست ملكي، فقال له: قل لصاحبها أكلها الذئب؛ فقال: وإذا قلت لصاحبها فماذا أقول لله؟! إن الله يسمع ويرى، فقال ابن عمر: لقد نجوت في الدنيا عند رب عملك ونجوت في الآخرة عند الله.