للمسلمين الصينيين تاريخ طويل في نسخ القرآن الكريم، وهم كغيرهم من المسلمين يمثل القرآن محور حياتهم، ولأن قراءة القرآن ودراسته أمر واجب، فقد حرص المسلمون الصينيون على اقتناء نسخ من القرآن الكريم، إلا أن الحصول عليها كان من الصعوبة بمكان قبل ظهور الطباعة؛ لذا فقد كان السبيل الوحيد نسخ القرآن، وكان ذلك من الأعمال الصالحة في نظرهم، وفي ظل هذا الوضع، ظهر في الصين عدد كبير من نُسخ القرآن الكريم المخطوطة، من بينها نسخ منسقة الخط جميلة التجليد.
لقد بدأ المسلمون الصينيون بنسخ القرآن الكريم منذ عهد أسرة يوان (1271 – 1368م) على الأقل، وتفيد التدوينات التاريخية أن آناندا (حفيد قوبيلاي خان)، المتوفى عام 1307م، قد اعتاد قراءة القرآن الكريم في معسكره طوال اليوم بعد أن اهتدى للإسلام، ولكن ليس هناك سبيل لمعرفة ما إذا كان المصحف الذي كان يقرأه من بلاد العرب أم منسوخاً في الصين.
وكان نسخ القرآن والكتب الدينية أمراً اختيارياً، ولكن بعد ظهور التعليم الإسلامي وانتشاره، أصبح نسخ الكتب الإسلامية والمواد الدراسية المستعملة في المدارس المسجدية درساً إلزامياً للطلاب، وقد كان نسخ هذه الكتب مرهقاً للغاية، حيث إن أوراق «شيوان» الصينية المستعملة في النسخ كانت رقيقة جداً، ولا تحتمل الكتابة بالأقلام الخيزرانية.
ورغم ذلك، فإن المسلمين الصينيين كانوا يضعون نصب أعينهم نسخ القرآن الكريم، والكتب الإسلامية، ويعتبرون ذلك من الحسنات؛ لذلك كانوا يُظهرون مواهبهم في هذه النسخ، كما كانوا يقدحون قرائحهم لزخرفة مخطوطاتهم.
وتنقسم مخطوطات القرآن الكريم إلى نوعين؛ الأول: نسخ القرآن على الورق، والثاني: نسخ القرآن على الكليشيهات الخشبية.
أولاً: نسخ القرآن المخطوطة:
– مصحف قومية السالار:
في محافظة شيونهوا الذاتية الحكم لقومية سالار بمقاطعة تشينغهاي الصينية نسخة نادرة بخط اليد من القرآن الكريم، عمرها أكثر من ألف سنة، أهل شيونهوا أحد فروع قومية سالار، وهي واحدة من 10 قوميات في الصين تعتنق الإسلام، ويبلغ عدد أبنائها 100 ألف نسمة ليس أكثر.
في عام 2000م، قام سفير تركمانستان بزيارة لمحافظة شيونهوا لمشاهدة هذه النسخة، وقال السفير التركمانستاني: اليوم، تأثرت كثيراً بعد مشاهدتي هذه النسخة من القرآن الكريم التي حملها أسلاف السالاريين من سمرقند إلى الصين قبل أكثر من 800 سنة، كما أدهشني أن أبناء سالار يحفظونها بشكل كامل حتى اليوم.
ويحظى القرآن الكريم بمكانة خاصة في حياة المسلمين السالاريين، وهم قوم يؤدون صلواتهم الخمس كل يوم، ويصلون الجمعة في أكثر من 40 مسجداً في شيونهوا، أقدمها مسجد منغداي الذي بني قبل أكثر من 600 سنة.
ويقال: إن أسلاف السالاريين بنوا، فور وصولهم إلى شيونهوا، مسجد جيهتسي قبل 800 سنة، لكنه تخرب وقام السالاريون بإعادة بناء هذا المسجد، ووضع نسخة القرآن النادرة فيه.
تُحفظ نسخة المصحف النادرة في خزانة موضوعة في غرفة لها 3 أبواب متعاقبة، لكل باب قفل ثقيل، المفاتيح الثلاثة في أيدي 3 أشخاص مختلفين، فلا بد من اجتماع الثلاثة عند فتح الغرفة!
– مصحف أسرة الإمام ليو جينغ مينغ:
هذه النسخة الثمينة من المصحف كان يحتفظ بها الإمام الكبير ليو جينغ مينغ، الذي عاش في مسجد زقاق نان دو ياشا بحي دونغ تشنغ شرقي بكين، وقد توارثها عن أسلافه، وبعد وفاته عام 2001م أهداها أهله إلى مكتبة مسجد دونغسي المشهور في بكين.
اسم الناسخ وتاريخ النسخ غير مدون بها، إلا أن خبراء الآثار في مصلحة الآثار القديمة ببلدية بكين قاموا بفحصها، وبدراسة نوعية الورق ولون الحبر فيها، أكدوا أن تاريخها يرجع إلى زمن أسرة مينغ الإمبراطورية (1368 – 1644م)؛ أي قبل 600 عام تقريباً.
تتكون هذه النسخة من مجلد واحد، وتشتمل على 30 جزءاً، وقد كتبها ناسخها بخط سلس، قوي، ويبدو أن كل نصوصها نسخت دفعة واحدة؛ مما يدل على أن ناسخها كان بارعاً في الخط العربي، وهي محفوظة حالياً في مكتبة مسجد دونغسي في بكين.
– مصحف المحظية العطرة:
كان القصر الإمبراطوري في عهد أسرة تشينغ (1644 –1911م) يحتفظ بنسخة مخطوطة من القرآن تقع في 30 مجلداً، وأغلفتها مصنوعة من الحرير الأصفر، ولون أوراقها أزرق.
وحسبما تذكر السجلات التاريخية أن الإمبراطور تشيان لونغ (1736 – 1795م) من أسرة تشينغ، كان له زوجة من الدرجة الثانية؛ أي محظية، اسمها عبير خان (إبر خان)، كانت فتاة جميلة، أُتي بها من منطقة شنجيانغ إلى القصر الإمبراطوري؛ تكريماً لعشيرتها، التي قدمت مساهمات بالغة في حرب الإمبراطور ضد المتمردين في شنجيانغ.
وحسب ما تذكر السجلات التاريخية، كان جسم هذه الفتاة يفوح عطراً، فأحبها الإمبراطور كثيراً، ومنحها لقب «المحظية العطرة»؛ بل أقام لها مسجداً داخل القصر الإمبراطوري، وأهداها نسخة ثمينة من القرآن الكريم؛ احتراماً لديانتها الإسلامية.
واكتشفت هذه النسخة في بداية خمسينيات القرن الماضي، ويرجع العلماء تاريخها إلى حوالي 250 سنة، وعلى غلافها عبارة قصيرة مكتوبة بالعربية تبين أن مصدرها ليس عادياً تقول: «هذا الكتاب المقدس هدية من الإمبراطور»، بالإضافة إلى ذلك تشير المواد المستخدمة في تغليفها وتجليدها، والحبر الذهبي المستخدم في نسخ نصوصها، والزخارف الفاخرة لكل صفحاتها، إلى أن هذه النسخة ربما تنتمي للأسر الإمبراطورية، ولكن من أين أتت هذه النسخة؟ ومن ناسخها؟ ومتى نسخت؟ وكيف دخلت القصر الإمبراطوري؟ كلها أسئلة ليس لها إجابة حتى الآن.
إن تاريخ هذه النسخة من القرآن يستحق الاهتمام، فهي تشتمل على 30 جزءاً بمقياس 36 × 26 سم، وكل منها ملفوف بقماش مقصب، وحرير ملون، مجلدة بعناية فائقة، وهي مكتوبة بالأسلوب التقليدي للكتابة العربية في الصين، فعلى هوامش كل صفحة كتابات بالفارسية مزدانة بتصميمات زاهية الألوان ومطلية بماء الذهب.
وأوراق هذا المصحف جميلة جداً، وقد قيل: إن قيمة الذهب المستعمل في كل مجلد تبلغ 2000 يوان تقريباً، ولهذا فإن هذا المصحف يعتبر الأروع من نوعه في الصين، وهذه النسخة موجودة الآن في مكتبة المعهد الصيني للعلوم الإسلامية ببكين.