روي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّكم ستفتحون مصر، وهي أرض يُسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها؛ فأحسنوا إلى أهلها، فإنّ لهم ذمّة، ورحماً»، أو قال: «ذمّةً، وصهراً» (رواه مسلم).
تم فتح مصر في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على يد الصحابي عمرو بن العاص عام 20هـ/ 641م، وبدأت منذ ذلك التاريخ مرحلة مهمة من مراحل التاريخ السياسي لمصر الإسلامية، اضطلعت خلالها بدور مهم عبر مراحل التاريخ الإسلامي التي امتدت عبر عدة دول وإمبراطوريات إسلامية بدءاً بالدولة الأموية، ثم الدولة العباسية، فالإخشيدية، فالدولة الفاطمية، ثم الدولة الأيوبية، ثم عصر المماليك، وأخيراً الإمبراطورية العثمانية التي كانت مصر إحدى ولاياتها لنحو ثلاثمائة عام.
تتميز مصر في استقبال شهر رمضان الكريم بمجموعة من العادات والتقاليد تتفرد بها عن بقية الدول الإسلامية، حيث إنها موروثة عن عصور قديمة أبرزها فترة حكم الفاطميين في مصر، وما زالت آثارها شاهدة يتمسك الناس ببعضها حتى صارت تراثاً من الصعب التفريط فيه يتوارثه جيلاً بعد جيل، كما بقيت آثارها الفنية والمعمارية باقية بأنحاء القاهرة في مصر القديمة بشارع المعز، ومسجد الحاكم بأمر الله، وجامع الأزهر، كما بقيت عاداتها مثل فانوس رمضان والحلويات وأغاني التراث الشعبي التي انتقلت من مصر لبعض الدول الإسلامية الأخرى(1)، وسوف نتناول بالتفصيل مظاهر الاحتفال المصري بقدوم شهر رمضان المبارك في النقاط التالية:
أولاً: قاهرة المعز لدين الله الفاطمي:
كانت الإمارة قبل مدينة القاهرة مستقرة في مدينة الفسطاط التي بناها الفاتح عمرو بن العاص، ثم انتقلت دار الحكم إلى مدينة القطائع التي أسسها أحمد بن طولون وحكم من خلالها وأنشأ الدولة الطولونية حتى خربت، لتنتقل للقاهرة المعروفة حالياً بمنطقة مصر القديمة بأسوارها المعروفة وآثارها الشهيرة، وبعد بناء القاهرة على يد جوهر الصقلي، أهم قادة الدولة الفاطمية والمعز لدين الله، وهو الذي ضم مصر وفلسطين والشام والحجاز والمغرب للدولة الفاطمية، ومنذ ذلك الوقت وصارت القاهرة مقراً للخلافة الفاطمية ينزل بها الخليفة بحرمه وخواصه إلى أن انقرضت الدولة الفاطمية.
سكنها من بعدهم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وابنه الملك العزيز عثمان، وابنه الملك المنصور محمد، ثم الملك العادل أبو بكر بن أيوب، وابنه الملك الكامل محمد، وانتقل من القاهرة إلى قلعة الجبل فسكنها بحرمه وخواصه، وسكنها الملوك من بعده إلى يومنا هذا، فصارت القاهرة مدينة سكنى بعدما كانت حصناً يعتقل به ودار خلافة يلتجأ إليها(2).
وقد ضرب الفاطميون حول القاهرة سوراً لحمايتها ووضعوا على أبواب منها ما زال موجودا ومنها باب زويلة وباب الفتوح وباب الشعرية وباب النصر وغيرها، وجعل الفاطميون أياماً كل عام كمواسم يحتفلون بها، منها موسم أول السنة الهجرية، وموسم عاشوراء، وعيد النصر، وكان أهمها موسم شهر رمضان المبارك.
ثانياً: احتفاليات رمضان الفاطمية:
كان لهم في شهر رمضان عدة أنواع من البر، منها كشف المساجد، وكان القضاة إذا بقي لشهر رمضان ثلاثة أيام طافوا يوماً على المشاهد والمساجد بالقاهرة ومصر، فيبدؤون بجامع المقس ثم بجوامع القاهرة ثم بالمشاهد ثم بالقرافة ثم بجامع مصر ثم بمشهد الرأس لنظر حصر ذلك وقناديله وعمارته وإزالة شعثه، وكان أكثر الناس ممن يلوذ بباب الحكم والشهود والطفيليون يتعينون لذلك اليوم والطواف مع القاضي لحضور السماط، وكان في أول يوم في رمضان يرسل لجميع الأمراء وغيرهم من أرباب الرتب والخدم لكل واحد طبق، ولكل واحد من أولاده ونسائه طبق فيه حلوى، ويوسطه صرة من الذهب، فيعم ذلك سائر أهل الدولة، ويقال لذلك: غرة كل رمضان.
ثالثاً: الخليفة في رمضان:
يقول ابن الطوير: فإذا انقضى شعبان اهتم الخليفة بالركوب والترتيب للموكب لاستطلاع هلال شهر رمضان، وهو يقوم مقام الرؤية، ويكتب إلى الولاة والنواب والأعمال، ويقول ابن المأمون: وقد ذكر أسمطة رمضان وجلوس الخليفة بعد ذلك في قاعة الاستقبال إلى وقت السحور، والمقرئون تحته يتلون عشراً ويسمعهم الخليفة، ثم يحضر بعدهم المؤذنون ويأخذون في التكبير وذكر فضائل السحور ويختمون بالدعاء، ثم يحضر الوعاظ ليذكروا فضائل الشهر الكريم ويمدحوا الخليفة، والصوفيين يقومون بالرقص حتى ينقضي أكثر من نصف الليل، فتحضر جفان القطايف ليأكل الجميع ثم تقدم مائدة تحمل كافة أنواع الأطعمة فيحضر الجلساء ويوزع الطعام على الجميع وذلك في كل ليلة من ليالي رمضان.
وأما في ليلة ختام رمضان فيحضر أضعاف الكميات التي تقدم كل ليلة، وذلك في يوم التاسع والعشرين من رمضان، فيحضر المؤذنون والمقرئون وتحضر الآنية المملوءة بكل أنواع الخير، ويحضر أهل القصور ليشهدوا بركة ختم القرآن(3).
وكان الخليفة الفاطمي يصلي أيام الجمعة الثلاثة في رمضان، الثانية والثالثة والرابعة على الترتيب، يصلى الجمعة الثانية في جامع الحاكم الأمر الله، الثالثة في الجامع الأزهر، أما الرابعة التي تعرف بالجمعة اليتيمة كان يؤديها في جامع عمرو بن العاص، وكان يصرف من خزانة التوابل ماء الورد والعود لبخور موكبه، وعقب صلاة الجمعة الأخيرة يذاع بلاغ رسمي كان يعرف بـ«سجل البشارة»، وآخر ليلة من الشهر الكريم كان القراء والمنشدون يحيونها في «القصر الشرقي الكبير» ويستمع لهم الخليفة من خلف ستار، وفي نهاية السهرة ينثر على الحاضرين دنانير الذهب.
رابعاً: مظاهر الاحتفال الشعبية في مصر الفاطمية:
رغم توالي الحكام على مصر وتغير الدول والأنظمة الحاكمة، فإن المتابع تاريخياً يرى أن أكثر دولة تركت تراثاً شعبياً بين المصريين هي الدولة الفاطمية، حيث فانوس رمضان الذي كان أول استخدام له يوم دخول المعز لدين الله الفاطمي مدينة القاهرة قادمًا من المغرب في يوم 5 رمضان 358هـ، حيث استقبله المصريون استقبالًا حافلًا في موكب امتد من صحراء الغربية من ناحية الجيزة للترحيب به.
ولما كان المعزّ قد وصل ليلًا، فقد حمل الجميع المشاعل والفوانيس الملونة والمزينة وذلك لإضاءة الطريق إليه، وظلت الفوانيس مضاءة طيلة شهر رمضان، ومن يومها أصبح الفانوس رمزًا للشهر الكريم شاهدًا على إبداع الإنسان المصري، فعرف الفانوس التقليدي بشكله المميز معبّرًا عن شخصية مصر المميزة، توقد الفوانيس، وتزين الشوارع وتوزع العصائر وتوقد المصابيح التي تطورت فصارت فوانيس لتنتقل منها إلى الدول المجاورة، وتقام موائد الرحمن في كافة الشوارع على نفقة الخليفة وعلية القوم.
ولعل اهتمام الدولة الفاطمية بشهر رمضان يعود إلى أن أحداثاً بارزة في التاريخ الفاطمي حدثت في رمضان، فقد فتح الفاطميون مصر على يد جوهر الصقلي قبيل حلول رمضان بأيام، ووضع حجر الأساس للجامع الأزهر في 14 رمضان 359هـ، وأقيمت الصلاة فيه لأول مرة 7 رمضان 361هـ(4)، واستمرت مظاهر الاحتفال بشهر رمضان وبداية الشهور العربية ورأس السنة الهجرية كذلك إلى يومنا هذا في تفرد اختصت به مصر وبعض جيرانها تأثراً بها.
_____________________
(1) كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخط والآر المعروف بالخطط المقريزية، تأليف: تقي الدين أبي العباس أحمد بن على المقريزي (ت 845هـ)، بتصرف.
(2) المصدر السابق، ج 2، ص 348.
(3) المصدر السابق، بتصرف.
(4) من كتاب ملامح القاهرة في 1000 سنة للكاتب جمال الغيطاني، بتصرف.